أوراق سرية من العيادة النفسية.. الضاحك المكتئب
الفنون جنون، وبين عبقرية الفنان والجنون خيط رفيع، ذلك لأن العبقرية استثناء وخروج على المألوف وكذلك الجنون؛ لكن الفارق الجوهرى كما يرى رجاء النقاش فى كتابه الممتع «عباقرة ومجانين» أن العبقرية تبنى وتضيف عناصر إيجابية إلى حياة صاحبها وحياة الناس، أما الجنون فهو تدمير لصاحبه ومحاولة لتدمير الآخرين. يقول «أندريه جيد» إن أجمل الأشياء هى تلك التى يوحى بها الجنون ويكتبها العقل ويرى فرويد أن الفنان العبقرى عصابى يهرب من الواقع عن طريق إشباع بديل، ويؤكد «جراهام جرين» أن الكتابة أسلوب من أساليب العلاج ويتساءل فى دهشة: كيف يتسنى لمن لا يكتب أو يرسم أو يؤلف الموسيقى أن ينجو من الجنون و«الملانخوليا»، ولا عجب فإن «فرجينيا وولف» مثلاً كانت لا تكتب إلا أثناء تعرضها لنوبات عنيفة من الهوس أو المرح الذى تنزوى بعده فى حالة من الاكتئاب الحاد و«فان جوخ» أبدع أروع أعماله التشكيلية وهو نزيل مستشفى الأمراض العقلية وفى دراسة حديثة لسبعة وأربعين كاتباً وفناناً بريطانياً اختيروا لمكانتهم المرموقة لحصولهم على جوائز كبرى، تبين أن 38% منهم خضعوا للعلاج من مرض الاكتئاب، وقد تلقى نصف شعراء العينة علاجاً بالعقاقير بالعيادة الخارجية وألحقوا بالمستشفيات لتلقى أشكال أخرى من العلاج الطبى النفسى.
الميل للاكتئاب إذن هو أحد مظاهر المرض النفسى الشائع بين العباقرة من المبدعين.
ومن يستعرض مثلاً حياة «موليير»، الفنان المسرحى الفرنسى الكبير الذى أضحك الملايين فى عصره والعصور التالية بمسرحياته الكوميدية الخالدة مثل: «المتحذلقات» و«طرطوف» و«البخيل» و«عدو البشر» يتبين لهم أن «موليير» كان يعانى من الاكتئاب الذى لازمه فترات طويلة من حياته.
وخاصة بعد عرض مسرحيته «طرطوف» التى هاجم فيها ازدواجية الذين يتسربلون بأردية التقوى والفضيلة ويتسترون وراء الدين وهم فى حقيقة الأمر أفاقون انتهازيون يسعون إلى كل ما هو حقير ودنىء ويتناقض مع تعاليم الدين السمحة ومكارم الأخلاق؛ لذلك تعرض «موليير» لهجوم ضارٍ من الكهنة الذين قاموا بازدراءه وتكفيره، فقال أحدهم إنه شيطان متجسد فى ثوب رجل.. وهو أشهر مخلوق فاسق عاش على الأرض حتى الآن، وجزاء تأليفه «طرطوف» هو أن يتم حرقه على الخازوق ليذوق من الآن نار الجحيم.
وحينما مات «موليير» على خشبة المسرح بعد أن أدى دوره، انتقم منه رئيس أساقفة «باريس» برفضه السماح بدفنه فى مقابر المسيحيين؛ لأنه كان يعده خارجاً عن الدين ولم تجد زوجته حلاً سوى أن تتوسل للملك ليتدخل، فأصدر أمره فى السر إلى رئيس الأساقفة بتغيير موقفه، فاضطر أن يسمح بدفنه فى هدوء فى ركن قصى من مقبرة «سان جوزيف»، دون أن يؤخذ جثمانه إلى الكنيسة لإجراء الشعائر الدينية.
يقول «رجاء النقاش» فى كتابه عن العباقرة والمجانين: وهكذا انتهت حياة هذا الضاحك الحزين ليمتد أثره إلى الثقافة العالمية كلها ويصبح واحداً من أكبر عباقرة التاريخ الذين يقدمون فى فنهم الضاحك الساخر أعمق أحزان القلب البشرى ويعبرون عن أصدق الهموم التى يحس بها الإنسان فى حياته رغم اختلاف الأجيال والعصور.