معركة «الحصانة» فى «عيون الغلابة»
معركة «الحصانة» فى «عيون الغلابة»
انتخابات
مهمشون دائماً، هكذا حالهم، إلى أن تدق طبول الصناديق إيذاناً ببدء معركة جديدة، للاستفتاء على دستور أو لاختيار رئيس جمهورية أو لانتخاب مجلس نواب، فى كل مرة يتغير الحال، يخرجون من دائرة التهميش لأيام قليلة تلاحقهم فيها النداءات من كل حدب، والدعوات من كل صوب، وينطلق سيل من الشعارات البرّاقة لا يتوقف، تختلف فى كلماتها ولا تختلف الرسالة، بداية من «من أجلك أنت» قبل 25 يناير، مروراً بـ«الثورة مستمرة» و«النهضة إرادة شعب» فى السنوات العجاف، وصولاً إلى «فى حب مصر» و«معاً نبنى مصر» و«وضوح وطموح». شعارات تلاحق مواطن بسيط يعيش على الدوام منسياً، إلا فى مواسم الاقتراع.. موظف بسيط، عامل بناء، سائق أجرة، قهوجى، ماسح أحذية، وكثيرون غيرهم من هؤلاء الذين يعيشون خارج حسابات الجميع، وخارج ذاكرة الجميع، وخارج دائرة اهتمام الجميع، حتى تحين الساعة، فيسارع إليهم الجميع بدعوات خاصة، متكررة، ملحة، لحضور «العرس الديمقراطى» والاصطفاف أمام أبواب اللجان الانتخابية للإدلاء بأصوات تتحول بعد قليل إلى أرقام تنصر فريقاً وتهزم آخر، فيما يعودون هم «فريق المنسيين» إلى مقاعد الظل من جديد دون مكسب حقيقى يلمسونه أو خسارة موجعة يعانون منها، فى واقع يأبى عليهم أن يتغير رغم مشاركاتهم فى استحقاقات عديدة خلال سنوات لا تتجاوز الخمس، كلها ذهبت أدراج الريح مع الإعلان عن خارطة طريق طوت صفحة الماضى، وبدأت معها صفحة جديدة من ثلاثة فصول: دستور تم إقراره، ورئيس جرى انتخابه، وبرلمان يقف على الأبواب.
«الوطن» ترصد آراء «المواطنين المنسيين» قبل ساعات من بدء التصويت
شعوره بأن مصر تبدأ مرحلة جديدة، هو ما دفع «عم محمد» ماسح الأحذية بمنطقة الوراق التابعة لمحافظة الجيزة، للإدلاء لأول مرة بصوته الانتخابى فى استفتاء 19 مارس 2011 على مدار عمره الذى تجاوز الخمسين عاماً، مشاركة سياسية بدأت مع هذا التاريخ، ولم تتوقف فى جميع الاستحقاقات التالية حتى الانتخابات الرئاسية بعد ثورة 30 يونيو، من التصويت بـ«نعم» فى استفتاء لقى تأييداً بنسبة تجاوزت 70% إلى التصويت لصالح مرشح رئاسى فاز بأغلبية تعدت 95%، وبينهما جولات أخرى عديدة خرجت من ذاكرته، رحلة مرهقة خاضها الرجل فى زيارات متكررة إلى لجنته الانتخابية، لكنه لم يعد راغباً فى التوجه إليها مجدداً: «أنا شاركت فى كذا استفتاء وانتخابات، بعد ما عشت عمرى كله لا عمرى انتخبت رئيس جمهورية ولا عضو برلمان، والحمد لله البلد وقفت على رجلها مع الرئيس السيسى اللى إديته صوتى زى كل المصريين»، لا يرى الرجل الخمسينى، الذى يعول زوجة وفتاتين وثلاثة أولاد أكبرهم سناً يعمل بورشة ميكانيكا بعد أن ترك دراسته فى المرحلة الإعدادية، جدوى لمجلس النواب المقبل، فبحسبه، المهم هو وجود «رئيس قوى» يعمل لمصلحة البلد: «عمرنا ما شفنا فايدة من عضو مجلس الشعب، بيدخلوا المجلس وبعدين ينسونا ويشوفوا مصالحهم»، مستدركاً: «والله أنا ما فاكر اسم واحد منهم، يبقوا الجايين هيعملوا إيه؟»، «عم محمد» الذى يجلس أمام صندوق «أكل عيشه» المكدس بعبوات الصبغة والورنيش، ويمسك فى يده فرشاة تلميع الأحذية، ويضع على رأسه غطاءً يشبه أغطية الرأس عند السيناويين، رغم عدم علاقته بسيناء وأهلها من قريب أو بعيد، «بيحمى راسى من الشمس خاصة وقت الضهرية»، أكد أنه لا يدلى بصوته هذه المرة، لسبب بسيط: «أنا ماعرفش اسم واحد مرشح أروح أديله صوتى، والكام يافطة اللى اتعلقوا مانعرفش حاجة عن أصحابها، وكلها شبه بعضها، نفس الشعارات والألوان والوعود، لو رحت اللجنة هختار بالعميانى، يبقى قِلّتها أحسن».
الشعارات الانتخابية التى انتقدها الرجل البسيط «اللى يادوب بيفك الخط»، كانت موضع انتقاد لدراسة أعدها المركز الإقليمى للدراسات الاستراتيجية بالقاهرة، وصفتها بـ«الفضفاضة» وتسعى لكسب أصوات الناخبين أكثر من ترجمة برنامج انتخابى، الدراسة التى حملت عنوان «الدلالات السياسية لشعارات مرشحى برلمان 2015» ذكرت أن عدم الاتساق السياسى بين الشعارات والبرامج للقوائم والمرشحين فى الانتخابات البرلمانية الحالية، إحدى السمات الرئيسية للدعاية على مستوى الجمهورية، الأمر الذى يؤدى لإرباك الناخبين، وربما يكون دافعاً للعزوف. وتشهد فعاليات السباق الانتخابى تنوعاً فى الشعارات، حسب ما رصدته الدراسة، سواء بالنسبة للقوائم فى الدوائر الأربع الكبرى، أو بالنسبة لمرشحى الفردى والأحزاب، ففى حين طرحت قائمة ائتلاف الجبهة المصرية وتيار الاستقلال شعار «معاً نبنى مصر»، فإن حزب النور تبنَّى شعار «وضوح وطموح»، أما شعار قائمة «فى حب مصر» فقد جاء «فى حب مصر.. اتجمعنا»، وبالنسبة للأحزاب فقد تبنى حزب «مستقبل وطن» شعار «مفيش مستحيل»، ورفع حزب المصريين الأحرار شعاره تحت عنوان «الفقر هنهزمه»، وجاء شعار حزب التجمع ليكون «معاً لمواجهة الفقر والبطالة والفساد والإرهاب»، وتمثل شعار حزب الوفد فى «الوفد حلم المصريين.. مستقبل له تاريخ»، أما حزب التحالف الشعبى الاشتراكى فقد جاء شعاره «حقوق الأغلبية أولوية.. ومصر جاية».
«عم محمد»: لو شاركت هختار بـ«العميانى».. و«دوكش»: «قِلّتها أحسن».. والحاج «على»: «تيجى زى ما تيجى طالما مفيش إخوان»
غالبية شعارات المرشحين، سواء على القوائم أو الفردى، تدور حول قضايا مركزية كبرى لا خلاف عليها، مثل حب الوطن، والانحياز للفقراء والمهمشين، وتحقيق الأهداف التى نادت بها ثورتا 25 يناير و30 يونيو من «عيش، وحرية، وعدالة اجتماعية، واستقلال وطنى»، وبرغم أهمية هذه الخطوط العريضة إلا أنها لا تؤثر فى الناخبين بصورة كبيرة، بحسب الدكتور عمرو هاشم ربيع، مدير وحدة النظام السياسى بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، «المواطن يهتم أكثر بالمشكلات التى تمسه، التى يتعرض لها فى حياته اليومية، كانت مشكلة الأمن على قائمة الأولويات، وربما يحل بديلاً عنها الآن مشكلات أخرى مثل غلاء الأسعار أو الخدمات الأساسية من كهرباء ومياه وصرف صحى، خاصة بعد التحسن النسبى فى الحالة الأمنية»، أحياناً كثيرة تأتى نتائج الدعاية الانتخابية بنتائج عكسية، فتؤدى إلى العزوف بدلاً من تحقيق هدفها الأساسى فى الحث على المشاركة، لكن أسباباً أخرى وراء الشعور النسبى بـ«عدم الأهمية» لهذه الانتخابات مقارنة بالاستحقاقات السابقة، منها «عدم نجاح القوى السياسية على مدار الفترة السابقة فى تنظيم صفوفها والوصول للجماهير والتأثير فيهم خلال الفترة الماضية، فكثير من المواطنين لا يميزون بين القوى المتنافسة فى هذه الانتخابات حتى موعد التصويت»، أيضاً غياب القضايا الأساسية بالنسبة للمواطن، عن أجندات القوى السياسية التى تقتصر على طرح قضايا عامة، ربما يكون له تأثير سلبى.
«قِلّتها أحسن» التى اختتم بها «عم محمد» حديثه، كانت حاضرة أيضاً على لسان «مصطفى الحلوانى» رغم بُعد المسافة بين الرجلين، فالأول يجلس أمام «صندوق أحذية» بالقرب من موقف سيارات الأجرة الرئيسى بالوراق، والثانى الملقب بـ«دوكش» لا يغادر مقهى شعبياً يعمل فيه منذ سنوات طويلة بالقرب من وسط القاهرة، سنوات طويلة من عمره قضاها فى هذه المهنة، يقدم مشروبات للزبائن ويرص أحجار الشيشة ويجمع الحساب الذى يتقدم به فى نهاية اليوم لصاحب المقهى، ويتحصل هو على اليومية الثابتة المقدرة بـ70 جنيهاً، إلى جانب «البقشيش» الذى تصل قيمته نصف تلك اليومية فى أحيان كثيرة، «يعنى أسيب الوردية وأروح انتخب راجل لامؤاخذة ماعرفوش» يقول «دوكش» الذى يتحرك بسرعة لافتة بين طاولات زبائنه، يضحك بسؤاله عن الانتخابات الرئاسية الأخيرة «أيوا، سبت الوردية ورحت اللجنة، بس دى تفرق، وقتها كنت بانتخب رئيس جمهورية، إنما النهارده هانتخب نائب، من إمتى شفنا منهم حاجة»، وجوده بالقرب من منطقة التحرير وشارع طلعت حرب، جعله شاهداً على أحداث سياسية كثيرة، ومطلعاً على تفاصيل لا يعرفها كثير من «القهوجية»، يقول بحماسة: «أنا صحيح ماتعلمتشن بس مش راجل جاهل، عارف ومتابع اللى بيحصل من وقت الثورة -يقصد 25 يناير- لحد النهارده، وفات عليا زباين ياما، اللى ناشط سياسى واللى بيطلع فى التليفزيون واللى عمال يشتم فى خلق الله»، لا ينفى أهمية البرلمان المقبل، باعتباره خطوة أخيرة لاكتمال خارطة الطريق، لكنه بحسبه «مايستاهلش الوقفة ساعة أو اتنين على باب اللجنة».
الحديث عن انتخابات مجلس النواب يغيب عن «مناقشات القهاوى».. وسؤال «ننتخب مين؟» الأكثر شيوعاً
اختلاف التقييم عند «دوكش القهوجى» بين الانتخابات الرئاسية وانتخابات مجلس النواب، واستعماله تعبير «ماتستاهلش» على طريقة «قِلتها أحسن» لسابقه ماسح الأحذية، الذى اتفق معه فى الموقف المقاطع للانتخابات، أمر متوقع بحسب محمد تهامى، الباحث فى التسويق السياسى، الذى أكد أن نظرة سريعة للأحداث، وربطها ببعضها البعض، كافية لاستخلاص نتيجة واحدة: «الانتخابات المقبلة ستكون أقل كثافة من الخطوتين السابقتين فى خارطة الطريق، ليس لموقف سياسى، لكن لغياب العديد من دوافع السلوك الانتخابى»، يوضح «تهامى» أن لكل انتخابات دوافع عند المواطنين تجعلهم يحددون مشاركتهم من عدمها، والمرشح سواء كان شخصاً أو حزباً أو قائمة الذى سيصوتون له، «دافع الشعور بالتهديد والخطر، وهو لم يعد موجوداً بالمقارنة بالفترات السابقة، دافع الرغبة فى الاستقرار، وقد تحقق بنسبة كبيرة بعد سنة واحدة من حكم الرئيس السيسى، دافع الانتماء الأيديولوجى، وهو غير منتشر على نطاق واسع بين المصريين، فالكتلة التصويتية العريضة فى مصر ليست مؤدلجة، أى لا يحكم سلوكها الانتماء لتيار سياسى محدد أو نظرية فكرية ما أو حزب بعينه»، للسلوك التصويتى نماذج متعدة، تختلف من بيئة لأخرى، وفقاً لاختلاف الحالة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، «نموذج الإلغاء والاختيار السلبى» هو الذى سيسيطر على معظم الأصوات الانتخابية فى انتخابات النواب الجارية: «هذا النموذج يقوم على أن السلوك الانتخابى هو نتيجة لسلسلة من العمليات الذهنية المثالية، ويفترض أن الناخب يجرى مقارنات مختلفة بين المرشحين، استناداً إلى معايير محددة، وخلال المقارنة يركز الناخب فى بداية الأمر على الجوانب الأكثر سلبية من المعايير المدرجة فى المقارنة، ويقوم باستبعاد مرشح أو قائمة، ثم يصبح أكثر ميلاً للمرشح الآخر الذى لا يجد فيه سلبيات واضحة»، مستدركاً: «فى انتخابات الرئاسة كان التصويت إيجابياً، من أعطى صوته للرئيس السيسى أعطاه هذا الصوت تأييداً له واقتناعاً به، لكن الأمر سيكون مختلفاً فى انتخابات البرلمان، فعديد من الأصوات ستذهب للأقل سوءاً بحسب رأى المواطن، ولن يكون دافعها هو التأييد المطلق، ولكن على طريقة: أحسن من غيره. وربما تستمر هذه المقارنة حتى استلام بطاقة الاقتراع داخل اللجنة الانتخابية».
هاشم ربيع: الدعاية الانتخابية متشابهة عند الجميع وتأثيرها سلبى ومشكلات المواطن غائبة عن الأجندات السياسية فى الجولة الأولى من الانتخابات بـ 14 محافظة.. و27 مليون ناخب فى 103 لجان عامة
على المقهى نفسه، يجلس 3 أشخاص تتوسطهم طاولة صغيرة، يتناقشون فى قضايا لا تمت للانتخابات بصلة، موضوعات متفرقة لا يجمع بينها مشترك واحد سوى أصحابها، مباراة الأهلى والزمالك فى كأس السوبر الذى فاز به لاعبو القلعة الحمراء، أخذت مساحة واسعة من الحديث: «الزمالك كان يستحق الفوز»، «الأهلى أفضل، واللاعيبة كانوا رجالة»، «الإمارات بلد جميل وفيه نظام، مش زى عندنا»، عبارات مختلفة تخللت الحديث غاب عنها عبارة واحدة عن انتخابات يصفها محللون وخبراء من أهل النخبة بأنها «الأهم» لاستكمال مؤسسات الدولة وإنجاز خارطة الطريق كاملة، بينما يراها كثيرون فى المقاهى الشعبية والشوارع والحارات أنها «الأقل أهمية» عن كل الجولات الانتخابية السابقة.
«أنا هروح انتخب إن شاء الله، مش محدد لسه هدى صوتى لمين، بس اللى فيه الخير ربنا يقدمه»، قال الذى كان ينتصف الجلسة، واستحوذ على الجزء الأكبر من الحديث الدائر فيها: «مش هتفرق أوى، المهم نروح ونعمل اللى علينا، والانتخابات بقت مناسبة حلوة إن الواحد يحس بدوره وإن صوته له قيمة وأهمية، اللى هيكسب ربنا يوفقه، واللى مش هيكسب ربنا يعوض عليه فى مرة تانية بقى»، ببساطة شديدة، يتحدث الحاج «على» ذو الشعر الأبيض، الذى يستعد للخروج على المعاش نهاية العام الحالى، يرى أن البلد يسير بشكل إيجابى، والمشكلات سيتم حلها عاجلاً أو آجلاً، وانتخابات مجلس النواب ستمر وسيعقد البرلمان «وكله هيبقى زى الفل إن شاء الله، بلاش إحنا نستعجل بس»، يقاطعه صديقه الذى يجلس عن يمينه: «أصل الحاج على واخد حياته ببساطة دايماً، إزاى المهم نروح بس مش مهم ننتخب مين؟.. لازم نصوت للناس اللى خايفة على البلد، واللى بتعلن دعم وتأييد الرئيس علشان البرلمان والرئيس يبقوا إيد واحدة، إحنا محتاجين مجلس يعاون الراجل اللى انتخبناه، مش مجلس يهاجم ويتخانق ويسخن الدنيا مع أول أزمة»، ثالثهم كان يجلس صامتاً، إلى أن طلب منه صديقاه الحديث: «بصراحة أنا مش رايح، ياعم مين ينجح ومين يخسر مش هتفرق، المهم ميبقاش فيه إخوان تانى»، يرشف من فنجان القهوة الموجود أمامه، ويستكمل حديثه: «محدش عندى فى البيت هيروح ينتخب المرة دى، رغم أننا رحنا قلنا نعم للدستور ونعم للسيسى، بس البرلمان بقى تيجى زى ما تيجى»، بالقرب منهم، كان يجلس «علاء وحيد» وحيداً، ينفث دخان الشيشة، ويحتسى كوب الشاى فى «ساعة العصارى».
بسؤاله عن موقفه الانتخابى، رد مقتضباً: «ربنا يسهل»، يبدو «علاء» غير مكترث، لكنه يضيف دون أن يصرح عن موقفه بالمشاركة من عدمها: «المهم مش عايزين إخوانا الدقون تانى، كفاية اللى حصل».
مواقف سياسية وانتخابية تختلف من مواطن لآخر، وعند نفس المواطن من فترة لأخرى، تتداخل معها عوامل نفسية واجتماعية، لها تأثير كبير على سلوك المواطنين وقراراتهم، «الحالة النفسية للفرد، سواء كان متفائلاً أو يائساً أو لديه شعور بالخوف أو الاطمئنان، بسبب ظروف شخصية أو عامة، تنعكس بطبيعة الحال على موقفه الانتخابى، فالتفاؤل العام يدفع للمشاركة الانتخابية، وهى الحالة التى سيطرت بعد ثورتى 25 يناير و30 يونيو، وشاهدنا هذه الطوابير الطويلة والأرقام الضخمة غير المسبوقة فى مصر».
قال الدكتور محمد هانى، استشارى الصحة النفسية، مؤكداً أن حالة العزوف النسبى التى عبر عنها بعض المواطنين البسطاء تجاه الانتخابات الحالية، ليست وليدة يأس، بقدر ما هى تراجع للاهتمام السياسى فى مقابل العودة للانشغال بالحياة الشخصية الطبيعية للفرد، إلى جانب زوال الإحساس بالخطر: «الناس مابقتش خايفة زى من سنتين فاتوا، حسوا بأن الأمور استقرت، والبلد تسير بشكل طبيعى، وبالتالى عادوا إلى اهتماماتهم الشخصية الحياتية بدلاً من موضة الحديث فى السياسة التى انتشرت فى السنوات الماضية، هذا التغير سيكون له تأثير سلبى على الكثافة التصويتية ومن الصعب أن نرى مجدداً هذه الأرقام التى تتجاوز الـ20 والـ25 مليون ناخب»، الحالة التى حاول تفسيرها «د. هانى» من وجهة نظر نفسية تحليلية، أكدها الدكتور سعيد صادق، أستاذ علم الاجتماع السياسى بالجامعة الأمريكية، لكن لأسباب أخرى: «القوى السياسية لم تعمل بالشكل الواجب عليها خلال الفترة الماضية، وقصرت فى أداء مهامها، ومنها ملء الفراغ السياسى الاجتماعى، وبالتالى أصبحت علاقة السلطة التنفيذية ممثلة فى شخص الرئيس، والقواعد الشعبية الجماهيرية، مباشرة دون قنوات اتصال فى شكل أحزاب أو منظمات فاعلة أو نواب تنتظرهم الجماهير»، مستدركاً بعبارة أكثر وضوحاً: «المواطن ينظر للرئيس، ويعول عليه، ولا يشعر بوجود أو تأثير القوى السياسية الوسيطة، لا سيما فى ظل الانقسام والصراعات ودعوات التشكيك من فريق، والمقاطعة من فريق آخر».
«محمد» ماسح الأحذية، و«دوكش» القهوجى، و«الحاج على» وصديقاه، نماذج لملايين آخرين يعيشون فى مساحات الظل المنسية الممتدة على كل أرض مصر، إلا قليلاً، لا يشعر بهم أحد، ولا يدرى بهم أحد، ربما لا ينظر إليهم المتنافسون إلا أرقاماً فى عملية حسابية، وأفكاراً لشعارات فى معركة انتخابية، أرقاماً لا يكترثون هم بها، وشعارات باتوا لا يصدقونها.