نجيب محفوظ.. لم يبق من «الحارة» إلا «الرواية»
نجيب محفوظ.. لم يبق من «الحارة» إلا «الرواية»
صورة نجيب محفوظ داخل المقهى الذى ذكره فى رواية «زقاق المدق»
شاب يبدو تخطى العشرين من عمره، يقف وحيداً على أول زقاق المدق، المتفرع من حارة الصنادقية بمنطقة الحسين، الموازية لشارع الأزهر، ينفث دخان سيجارته، وهو يرتدى البنطال الجينز، و«تى شيرت» أسود اللون مكتوباً عليه بالإنجليزية، متهالكاً، وبجواره محل بقالة صغير يضم أنواعاً عديدة من منتجات الحلوى المُغلفة المكتوبة أسماؤها بكلمات أجنبية تتراص إلى جوار بعضها.
«زقاق المدق» بلا روح.. وحوارى «بين القصرين» مهجورة.. وركن «الثلاثية» الشاهد الأخير
الزقاق كان خالياً بعد ساعة من ساعة الظهيرة، لم يوجد به أى من الأطفال الذين يلعبون ويصيحون، ويغنون معاً «توت توت»، كما ذكر «محفوظ»، واختفت كذلك الوكالة الكبيرة بوسط الزقاق، التى كانت مصدراً للحركة والأمان والأنس، حسبما أشار، وحل مكانها دكاكين صغيرة للعطارة والأعشاب وبعض السلع المنزلية.
على ناصية المدق من الناحية الأخرى، تجلس سيدة عجوز بجلباب أسود، وطرحة سوداء، على فرشة بسيطة على الأرض بجوار منزل قديم، قالت إنها تسكنه «من قبل الثورة»، تقصد ثورة الضباط الأحرار فى 23 يوليو 52: «أنا عشت هنا أكتر من 70 سنة، عندى 3 أجيال، ولادى، وولاد ولادى، وولاد ولادهم، مفيش حاجة بتفضل على حالها، الدوام للى خلق وحده، أما الناس والحجارة ما بيكملوش، لازم ليهم نهاية»، قالت الحاجة «أم ياسر»، التى بدت برغم سنها الطاعنة، قادرة على الحديث والتذكر والوعى بكل ما يدور حولها: «الحارة هنا راح وجه عليها ناس كتير، واتعمل عنها أفلام فى التليفزيون، بس كل حاجة بتروح لحالها فى الآخر، والناس بتتلهى فى أكل عيشها»، تعرف جيداً اسم نجيب محفوظ، لكنها لم تقرأ له شيئاً فى حياتها، لأنها لا تجيد القراءة ولا الكتابة يوماً: «أعرفه كويس، ده ابننا، وكتب عن حالنا مظبوط، ووصل لأعلى الدرجات، بس أنا مبقراش ولا أكتب زى كتير هنا، بس الأجيال الجديدة بقى هى اللى بتقرا وتعرف».
مقهى «المعلم كرشة» يحتفظ بصورة «نجيب» حتى الآن رغم الخلاف.. وابنه: «ذكرى من الزمن الجميل»
مقهى المعلم كرشة، بحسب تسمية «محفوظ»، أو المعلم على يوسف، بحسب الحقيقة، لا تزال باقية، شاهداً واحداً على الحارة التى وصفها صاحب جائزة نوبل، ودليلاً على حقيقتها، وأنها ليست محض خيال من أديب، بعض التغييرات طرأت على المقهى الذى قضى فيه «محفوظ» فترات طويلة من حياته، لم يختلف حجمها، لكنّ شيئاً من الحداثة قد طرأ عليها، فدخلتها ماركات جديدة من زجاجات المياه الغازية، ومقاعد شبه حديثة للجالسين غير التى وصفها فى روايته، فيما أصبح مقعد المعلم خالياً، يتردد عليه ابنه عبدالنبى على يوسف، الذى ورث مقهى يعود تاريخه إلى أوائل القرن الماضى، فى نهاية حجرة ضيقة، وأعلى جدار قديم الطلاء، صورة للأديب الكبير فى مرحلة متأخرة من عمره، وبجوارها صورة أخرى صغيرة لصاحب المقهى الأول، الذى اعترض على تسميته بـ«المعلم كرشة» فى الرواية. «نجيب محفوظ كان بيقعد هنا لحد كذا سنة من حياته، كان يقرأ ويكتب والناس بتحبه، وصف كل حاجة صح إلا اسم أبويا الله يرحمه، غيّره وخلاه المعلم كرشة زى ما الناس كلها شافت فى التليفزيون بعد كده، وأظهره بصورة أغضبت الحاج، الله يرحمه، وده خلاهم يزعلوا من بعض أول ما الرواية صدرت وأبويا عرف بالقصة دى»، يحكى «عبدالنبى» الرجل الخمسينى، مشيراً إلى أنه بعد هذه الرواية، وعلى أثر خلاف بين الأديب والمعلم، قرر الأول تغيير جلسته واختيار مقهى جديد، مستدركاً: «لكن أبويا فضل يحبه برضه، وكلنا بنحبه لحد دلوقتى، وصورته عمرها ما اتشالت من هنا».
هنا ولد ونشأ «صاحب نوبل»: كل شىء تغيّر.. وحياة الأهالى أصبحت أكثر سوءاً و«عم محمد»: «ما يرضيهوش حالنا دلوقتى».. والحاجة «أم ياسر»: «ابن الحارة رفع راسنا»
مسافة قصيرة تفصل بين زقاق المدق، وثانى الأماكن الذى أخذ خيال الأديب بعيداً، وفتح عليه باب الوحى فتحاً مبيناً، ليكتب واحدة من أهم إبداعاته على الإطلاق، على مقهى «الفيشاوى» المواجه لمسجد الحسين، سطّر ثلاثيته التى كانت سبباً رئيسياً، إلى جانب الرواية الأكثر شهرة «أولاد حارتنا»، فى الدفع به نحو العالمية وحصوله على الجائزة الأهم بين جميع أدباء الأرض، ارتباط وثيق بين روح الأديب وروح المكان، عبّر عنه فى أحد لقاءاته التليفزيونية، بقوله: «منذ مولدى فى حى سيدنا الحسين، وتحديداً يوم الاثنين 11 ديسمبر عام 1911 ميلادية، وهذا المكان يسكن فى وجدانى، عندما أسير فيه أشعر بنشوة غريبة جداً، أشبه بنشوة العشاق، كنت أشعر دائماً بالحنين إليه لدرجة الألم، والحقيقة أن الحنين لم يهدأ إلا بالكتابة عن هذا الحى، حتى عندما اضطرتنا الظروف لتركه والانتقال إلى العباسية، كانت متعتى الروحية الكبرى هى أن أذهب لزيارة الحسين، ونقلت عدوى الحب لهذا الحى إلى أصدقائى، فتحت أى ظرف لا بد أن تكون السهرة فى الحسين، لا نعود إلى منازلنا إلا بعد جلسة طويلة على مقهى الفيشاوى، نشرب الشاى والشيشة ونقضى وقتاً فى السمر والحديث»، ربما لو عاد «محفوظ» من مرقده حالياً، فسيكون من الصعب عليه ممارسة طقسه اليومى، لأسباب عديدة.
بعد صلاة العصر، فى واحدة من ساعات الإلهام التى كان ينطق فيها قلم «النجيب»، بدا مقهى الفيشاوى شبه خالٍ من الزبائن سوى أسرة من 4 أفراد كانوا يجتمعون حول منضدة ويشربون العصائر، وأمامهم زجاجتا مياه معدنية، فيما يقف أحد العاملين بالمقهى فى منتصف الشارع محاولاً جلب الزبائن وإقناعهم بالإقبال والجلوس: «عندنا غدا، كباب وشيش وكفتة وحمام وحلو، وعندنا جميع أنواع المشروبات»، كلمات يرددها على مسامع المارة، على الأرجح لم يسمعها الأديب يوماً، أو يتخيلها. تختلط الكلمات مع أصوات الأغانى الشعبية التى تتداخل لحناً وإيقاعاً وكلمات غير مفهومة، إلى جانب التداخل مع ألحان العود والغناء الجماعى الذى يتصاعد من بين أفراد عائلة عربية تجلس على مقهى مجاور، وبينهم أحد العازفين الذى ينتظر أجره فى نهاية «النِمرة» التى يؤديها. على بعد أمتار من المقهى تزداد الأجواء ضجيجاً بالقرب من ممر ميدان الحسين المؤدى لشارع خان الخليلى، الشارع الذى حملت اسمه إحدى روايات «محفوظ»، المكتظ اليوم بمصريين وعرب وقليل من الأجانب، وعدد كبير من الباعة المنتشرين فى كل مكان، وحاملى المباخر، ورجال الشرطة.. مشهد لا ينزل معه وحى الكتابة، ولا تُفتح خزائن الإلهام وسط ضجيجه، لم يشاهده «محفوظ» فى جلساته القديمة، ولم يظهر فى أى من رواياته. ركن وحيد يحمل اسم الحكاء العربى الأعظم داخل «الفيشاوى»، لا يجلس بداخله أحد، هو آخر ما تبقى من رائحة المقهى الذى عرفه «محفوظ»، وقضى عليه أحسن أوقاته فى الكتابة وحيداً، وفى أمسيات السمر مع الحرافيش.
شارع المعز، الذى شهد أحداث الثلاثية: «بين القصرين»، و«قصر الشوق»، و«السكرية»، لم يعد سوى شارع أثرى، يزوره المصريون والأجانب لمشاهدة مبانيه القديم، والتقاط الصور بجانب الأعمدة والنقوش التراثية، تكاد تنعدم فيه الحياة تماماً، لولا بعض الزيارات الصباحية وسهرات المساء وحفلات الطرب وموسيقى الـ«أندر جروند» التى يجرى تنظيمها بين أروقة الشارع بين الحين والآخر. كافة الرجال الذين يعملون بالمنطقة، مثل أى رجال فى أى منطقة شعبية أخرى، أسطورة السيد أحمد عبدالجواد، الشهيرة بـ«سى السيد»، اختفت تماماً من الشارع، ولم يعد لها أى أثر، حتى فى الشوارع الجانبية التى لا يزال يسكنها بعض السكان الأصليين للمنطقة، واختفت معها كل الملامح التى رصدها صاحب الثلاثية، وحدها الحجارة هى التى لا تزال باقية فى مكانها. مدرسة النحاسين الأميرية الموجودة فى منتصف الشارع، أحد الأماكن التى شاهدها «محفوظ» وزارها أكثر من مرة لمطالعة الأشكال والصناعات النحاسية ذات الجودة والجمال. الظلام يخيّم على المدرسة التى تبدو كصرح مهجور، إلا من شخص وحيد ستينىّ العمر، يجلس على كرسى خشبى فى ممر الدخول: «المدرسة كانت من الأماكن المحببة لقلب الأستاذ الكبير، وزارها أكتر من مرة، وتكلم عنها فى كتاباته، لكن دلوقتى مبقاش حد يزورها، دماغ الناس وذوقها اتغير خلاص، حتى الصناعات اللى بتتعمل هنا قلت جداً مقارنة بأيام زمان».
جامع الحاكم بأمر الله، وكالة قايتباى، بيت السحيمى، جامع سليمان أغا السلحدار، جامع الأقمر، قصر الأمير بشتاك، جامع السلطان قلاوون، مدرسة الظاهر برقوق، المدرسة الصالحية، مدرسة ابن قلاوون، سبيل السلطان الغورى، حمام وجامع المؤيد.. آثار ومعالم القاهرة الفاطمية على طول شارع المعز، تفوح رائحتها فى روايات «محفوظ»، التى رسمت منها صورة طبق الأصل، ما زالت الصورة موجودة، لكنّ ثمة شيئاً غاب عن المكان، عم «محمد» الذى يجلس بجوار ثلاجة خاصة بإحدى ماركات المشروبات الغازية، الموجودة خارج «سوبر ماركت» صغير بين مسجد الأقمر، وبيت السحيمى، يجيب قائلاً: «المبانى موجودة، وفيه تطويرات بتحصل، لكن مبقاش فيه روح زى زمان، الناس بقت تحب تروح المولات الكبيرة أكتر ما تيجى هنا. التكنولوجيا أثرت برضه. زمان كانت كوباية الشاى مع صوت الست أحلى مزاج، لكن دلوقتى الشباب الجديد بقى عنده حاجات تانية وذوق تانى»، الرجل الخمسينى الذى يسكن بحى الجمالية، واعتاد على السير فى ساعات المنتصف كل يوم على أرصفة المعز، أضاف: «اللى موجودين معظمهم أجيال جديدة لا يعرفهم نجيب محفوظ، ولا كتب عنهم، ولو رجع بيه الزمن ما يرضاش عن الحال اللى وصلنا له».
رحلة إلى نهاية الشارع وصولاً لمسجد الحاكم بأمر الله، بدا فيها كل شىء قد اختلف عن الكلام «المحفوظ» فى روايات «نجيب»، الأمر كان كذلك أيضاً فى الأزقة والممرات الصغيرة المتفرعة من الشارع إلى قلب حى الجمالية، وصولاً إلى ميدان بيت القاضى بدرب قرمز، مسقط رأس الأديب الكبير. فى منزل رقم 8 المكون من 4 طوابق قضى التسع الأوائل من عمره، بداية من 1911 عام مولده، حتى 1919 عام الثورة التى قادها زعيم الأمة سعد زغلول، والتى شاهدها الأديب الصغير من شرفة منزله الجديد بحى العباسية، حسبما حكى. المنزل الذى كانت تسكنه موهبة أدبية أذهلت العالم كله وأضافت للإنسانية كثيراً، بسيط إلى درجة فقيرة جداً، ومتهالكة أبوابه وممراته وجدرانه الخلفية بصورة موحشة تبعث على القلق، يبدو خالياً من الحياة والحركة كعقار مهجور، لولا مقهى شعبى بالطابق الأول منه يبث فيه شيئاً من الحياة، مع تردد بعض الزوار عليه، «أنت تخرج منها لترجع إليها، كأن هناك خيوطاً غير مرئية تشدك إلى هذه الحارة، وحين تعود تنسى نفسك فيه، فهذه الحارة هى الوطن، وهذا الحى هو مصر، تفوح منه رائحة التاريخ لتملأ أنفك، وتظل أنت تستنشقها دون ملل»، يتحدث الحكاء الأعظم، الراحل الباقى، عن عالم عاش فيه، وحكى حكايات أهله، ورحل عنهما، ورحل من بعده ذلك العالم وهؤلاء الأهل، حتى لم يبق منهم جميعاً مع مرور الزمن سوى أثر وحيد.. الرواية.
ساحة ميدان الحسين الذى قضى فيه «محفوظ» فترة طويلة من حياته قبل أن تتبدل ملامحه
حوارى متهالكة فى «درب قرمز» الذى شهد نشأة «الأديب»