خطاب القبر
أَعدوا لى القبر قصراً يطل على القصر
مِن جهة البحر، قصراً يدل الخلود علىَّ
ويرفع لإسمى جبالاً من المرمر الصعب
يدفع أحلامكم صلوات.. إلىَّ
فمَن كان يعبد هذا البلد
فقد مات هذا البلد..
ومَن كان يعبد هذا الجسد
فمِن حقه أن يصدق أنى حى..
وحى هو العرش حتى الأبد..
* * *
بلغتُ الثمانين، لكننى ما عرفت السـأم
وقد أتزوج فى كل يوم فتاة
لأحمى النشيد من العنكبوت، وأحمى العلم
من السوس..
قد يكبر البحر حولى
ولكنه يتقلص حين أحرك فيه القَدم
وقد يتيبس غيم السماء، ويمرض لون الفضاء
إذا نمت يوماً ونام الخدم..
ولكننى حين أصحو
أعيد الطبيعة، فوراً، إلى رشدها..
أُعيِّن فصل الشتاء وزيراً لكل الفصول.
وأَعزل فصل الخريف
وأنقُش صورة وجهى فوق الرياح، وحول الرغيف
ليهتف سكان كفى: نعم
نعم..
بلغتُ الثمانين لكننى سأعيش ثمانين أخرى
وتسعين أخرى.. وأرفع سيفى قلم
وأحمل عنكم توابيتكم عندما تهلكون
وأبكى عليكم، وأرثيكم يوم تهوى البيوت
على ساكنيها، ويسكنها العنكبوت
فمن واجبى أن أعيش
ومن حقكم أن تموتوا
لأنجب جيلاً جديداً يواصل أحلامكم..
فما من أحد
رأى ما رأيتُ. وما من بلد
رأى ما رأى بلدى من فتوة هذا الجسد
فمَن كان يعبد هذا البلد
فقد مات، أما الذى يعبدنى
فمِن حقه أن يصدقنى حين أُصدر أمرى إلى الموت:
دعنى وشعبى الولد
معاً للأبد!
* * *
وبعد الثمانين، تأتى ثمانون أخرى
وأرقد فى اليوم عشرين ساعة
لأرتاح مما خلقت، وممن خلقت
ومن دولة ستعمر فى وتركع: سمعاً وطاعه
وتنهار بعدى، إذا نمت أكثر مما أنام
ولا شىء بعدى
ولا شئ بعدى..
فمَن تعبدون؟
وكيف تعيشون بعدى؟
ومَن سوف يُنقذكم من زمان الجنون
ومَن سوف يحرس أبوابكم من جراد المطر
ومَن سوف يحمل ريح الشمال إليكم
ويحميكم من ذئاب الشجر؟
ومَن تعبدون؟
لمَن ترفعون تراتيلكم، ولمَن تسجدون، وتتلون آيات مَن؟
أبا لخبز وحده، بالخبز وحده
تعيشون؟ والروح خاوية من عبادة مَن تعبدون؟
ومِن أى معنى تشيدون مبنى الخيال لهذا الزمن
وفى البدء.. كنت، وكوَّنت هذا الوطن
ليعبد خالقه، أو يموت إذا لم يكن لائقاً بعبادة خالقه
فاعلموا واعلموا
بأن الذى خَلق
أحق بهذى الحياة الطويلة ممن خُلِق
وإن كان لا بد من موتنا فاسبقونى
إلى الموت كى تحملونى وتستقبلونى
خذوا زوجتى معكم، وخذوا أسرتى..
وجهاز القلق..
ولا تُنشئوا أى حزب جديد هناك
ولا تأذنوا لقُدامى الضحايا بأن يسكنوا معكم
ولا تسمحوا للتلاميذ أن يسرقوا دَمْعكم
ولا تفتحوا صحفاً للحديث عن الفرق بين الحياة
على الأرض أو تحتها
ولا تسمحوا للمعارضة المستبدة أن تتساءل
عما رفضتُ التساؤل فيه..
أنا الموت، والموت لا ريب فيه
أنا من أعدّ لكم أجلاً لا مرد له، فاعلموا
أن ما فوق أرضى يجرى بأمرى
وما تحت أرضى يجرى بأمرى
فلا تهربوا من مشيئة قصرى..
فقد أختنق
وحيداً بغير جماهير تعبدنى..
ولقد ألتحق
بكم كى أراقبكم.. كى أحاسبكم
فمن كان يعبد هذى الحياة
فقد هلكت..
وأما الذى كان يعبدنى
فمن حقه أن يعيش معى فوق هذا التراب
وتحت التراب.. معى للأبد.
* * *
أعدوا لى القبر قصراً يطل على البحر..
قصراً مليئاً بأجهزة الاتصال الحديثة..
قصراً معداً لمملكة الشعب فى الآخرة
سآمر، فوراً، بنقل الوزارات والذكريات
ومجموعة الصور النادرة
سأنقل كل الحصون، وكل السجون، وكل الظنون
لأحكمكم فى المقر الجديد
بصيغة دستورنا الحاضرة
ولكننى سأُعدِّل بند الوراثة:
لا حق للحى أن يرث الميت إلا إذا أثبت
الميتُ أن الذى كان حياً هو الميت فيه
لئلا يطالبنا الدود بالآخرة..
أعدوا لى القبر أوسع من هذه الأرض
أجمل من هذه الأرض
أقوى من الأرض
قصراً يلخص بحراً بنافذة من سحاب
سأجتاز هذا الممر الصغير
على فرس الغيم، والغيم أبيض يهتز حولى
ويرسم لاسمى تاجاً وقوس قباب
سأجتاز هذا الممر الصغير
فلا عودة للوراء.. ولا رحلة فى السراب
أعدوا لى العرش من ريش مليون نسر
أعدوا العذارى، أعدوا الشراب
ونادوا ملائكة الشعر: صلى عليه وصلى له
لينسى الهواء، وينسى التراب
سأجتاز هذا الممر الصغير
إلى أمة سبقتنى لتعرف تاريخ ما بعد تاريخها
فَضَلت هناك وضيعها الاغتراب
سأجتاز هذا الممر الصغير
لأقضى على الموت فيها.. وفى
وأفتح آخر باب..
فمَن كان يعبد منكم هنا الآخرة
فقد ماتت الآخرة
ومَن كان يعبدنى
فإنى حى.. وحى.. وحى!+