الصواريخ الباليستية.. سلاح «الردع» عابر القارات
الصواريخ الباليستية.. سلاح «الردع» عابر القارات
الصواريخ الباليستية
فى ذروة احتدام الحرب العالمية الثانية كان سكان لندن يبيتون ليلهم دائماً فى الملاجئ المحصنة تحت الأرض للوقاية من هجمات الطائرات الألمانية التى لم تكن تكف عن قصف مدينة الضباب، وكان من متع الحياة لسكان العاصمة ألا تنطلق صفارات الإنذار فى بعض الليالى القليلة لأنهم سيهنأون بدفء وراحة النوم فى أسرتهم، لكن مفاجأة غير سارة حطت على رؤوس البريطانيين فى بعض تلك الليالى التى لم تنطلق فيها صفارات الإنذار، مفاجأة أشاعت الرعب فى قلوب الناس وفجرت بركاناً من الحيرة لدى القادة والخبراء العسكريين، فقد كانت الانفجارات تدوى هنا وهناك وتسبب الخسائر والذعر دون معرفة الوسيلة التى يقصف بها الألمان بريطانيا العظمى لاسيما أن الطائرات المعادية لا تقوم بأى إغارات ولا تقترب حتى من سماء البلاد، وبدا الأمر كأن قوى خفية من عالم آخر تشارك النازى عدوانه على بلاد الإنجليز.
قصة وخفايا أهم أسلحة القرن العشرين
اكتشاف سلاح الألمان السرى
الصدفة الكاملة هى التى حلت هذا اللغز المخيف عندما لم تنفجر إحدى قطعه، ولنتخيل أنه فى الصباح التالى لإحدى ليالى هذا الرعب الغامض تعثر رجل مسن فى شارع جانبى من إحدى ضواحى العاصمة وهو يهم بالخروج من باب بيته عندما اصطدم فى جسم ضخم ذى شكل مخيف من أسطوانة كبيرة ورأس مدبب، فعاد أدراجه واتصل بالشرطة التى أتت على عجل وأسقط فى يد أفرادها أمام هذا اللغز المحير، فاتصلوا بقيادتهم التى حضرت على التو لكنها وقفت أمام هذا الجسم الضخم وقد فقدت كل حيلة وقدرة على التصرف ومن تصعيد إلى تصعيد انتهى الأمر بحضور كبار قادة مكتب «MI-5» وهو المكتب المسئول عن المخابرات وبعض كبار القادة العسكريين والتقنيين وتم إخلاء المنطقة من السكان إلى أن تم رفع هذا الجسم المريب ونقله إلى أحد معامل المهندسين العسكريين فانكب العلماء والضباط والفنيين على فحص ودراسة وتحليل هذا الجسم المبهم وبدأوا فى فهم أنهم أمام سلاح ألمانى جديد مجهول وغير معروف لكل جيوش العالم، وهو السلاح الذى كان يمكن أن يغير مسار الحرب لو ركز الألمان فى خطتهم التى عطلتها ظروف الحرب بعد أن كانوا قد أوشكوا على إنتاج صاروخ باليستى عابر للقارات (A9/A10) لضرب الولايات المتحدة به، ويبدو أن قدرتهم على الإنتاج بكمية كبيرة لم تسعفهم من حسن حظ البشرية فى استخدامه على نطاق واسع لكن البشرية لم تنج فيما بعد من انتشار هذا السلاح الفتاك كالنار فى الهشيم، وخاصة لدى الدول الكبرى التى قطعت من بعد نهاية الحرب العالمية الثانية شوطاً هائلاً ومفزعاً فى تطويره اعتماداً على العلماء الألمان اعتماداً كاملاً وتحديداً فى الولايات المتحدة الأمريكية.
الصواريخ أقوى وأرخص الأسلحة الفتاكة والأمريكية والروسية الأفضل عالمياً
قصير المدى يغزو العالم
كان هذا السلاح الفتاك هو الصواريخ الباليستية وقد طور الألمان خلال الحرب العالمية الثانية صناعة هذا السلاح وأصبح صالحاً للاستخدام اعتباراً من مساء يوم الثالث من أكتوبر عام 1942 وبعدها بيومين تم ضرب لندن، وخلال العامين الباقيين من زمن الحرب العالمية الثانية أطلق النازى ألفى صاروخ باليستى (إحصائية غير مؤكدة)، وكما هى العادة فى عالم السلاح فإن الصواريخ أصبحت ذات فائدة جمة فى تطور الحضارة الإنسانية فهذه الصواريخ فى الاستخدام غير العسكرى هى التى تحمل الأقمار الصناعية لتضعها فى مداراتها فى الفضاء وهى تطور خطط اكتشاف الفضاء فى هذا الكون، ومنذ انتهاء الحرب العالمية الثانية ظلت الصواريخ الباليستية لسنوات سلاحاً مقتصراً على الأمريكيين والروس (السوفيت).
وفيما بعد أصبح قليل من دول العالم هى القادرة على تصنيع وإنتاج الصواريخ الباليستية، بل إن القادرة منها على تصنيع صواريخ قصيرة ومتوسطة المدى لا تستطيع فى الغالب، أو هى غير قادرة، على إنتاج الصواريخ بعيدة المدى وبالأحرى الصواريخ العابرة للقارات، ويبلغ عدد الدول فى قائمة إنتاج الصواريخ الباليستية 9 دول هى الولايات المتحدة وروسيا والصين وباكستان والهند وإسرائيل وكوريا الشمالية وفرنسا وإيران، ومن بين هذه الدول أنتجت الصواريخ العابرة للقارات أمريكا وروسيا والصين فقط، أما باقى الدول تنتج صواريخ بعيدة المدى، فهى قادرة نسبياً أيضاً على تطوير صناعتها وإنتاج الصواريخ العابرة.
تبقى سمعة وكفاءة الصواريخ الأمريكية والروسية هى الأفضل عالمياً، ولهذا السبب تتجه دول العالم إلى شراء هذا السلاح منهما، وإن كانت روسيا منذ زمن الاتحاد السوفيتى الأوسع حظاً فى المبيعات وبصفة عامة لا تبيع الدول الكبرى إلا الصواريخ القصيرة المدى، ويستثنى من هذا العرف بريطانيا التى تعتمد على إدماج مشروعها للصواريخ مع الولايات المتحدة وقد نالت صواريخ سكود الروسية من فئتى سكود B وسكود C شهرة واسعة فى الشرق الأوسط وحول العالم حيث تعتمد عليها جيوش 52 دولة، ويتميز الصاروخ الروسى بأنه تمت تجربته فعلياً فى حروب عديدة بين الدول. ومن الجدير بالذكر أن هناك عدداً من الدول المتقدمة فى مجال امتلاك تكنولوجيا صناعة هذه الصواريخ هى جنوب أفريقيا وأستراليا والنرويج وصربيا والأرجنتين وبولندا والسويد وتركيا.
الألمان أول من اخترعوها وانفردوا باستخدامها فى الحرب العالمية الثانية ضد «الحلفاء»
الأهمية الاستراتيجية
ليس من المبالغة القول إن الصواريخ الباليستية تشكل بعداً استراتيجياً بالغ الأهمية فى بناء قوة الردع وتعزيز النفوذ الاستراتيجى للدول، حيث إنها تستخدم كأداة للتوازن الاستراتيجى فى السلم والإكراه فى الحروب، وبتتبع المدى الذى وصلت إليه ترسانة بعض الدول من هذا السلاح تتضح القفزة الهائلة فى مضمار التسلح به، مما ينبئ بأن هذه الصواريخ ستشكل تهديداً رئيسياً فى صراعات المستقبل وتتأكد هذه المكانة المتوقعة للباليستى للأسباب التالية:
1 مع الارتفاع الهائل فى أسعار الأجيال الجديدة من الطائرات الحربية التى تصل فى بعض الأنواع إلى أرقام فلكية، يتجه الكثير من الدول إلى التسلح بالصواريخ الباليستية.
2 فعالية استخدامها مهما بلغت قوة الدفاعات الجوية المعادية.
3 استخدام الطائرات عالى التكلفة والهجوم بها غير مجدٍ عملياتياً فى بعض الأحيان وبعض مواقف تطور الاشتباك.
4 من المميزات الجمة للصواريخ الباليستية سهولة التدريب والصيانة وقلة الاحتياجات اللوجستية.
5 يمكن أن تصبح سلاحاً ذا قدرات تدميرية فائقة، وذلك فى حال تسليحها برؤوس نووية أو كيميائية أو بيولوجية.
بناء على هذه الأسباب تعتبر الصواريخ الباليستية سلاح ردع الفقراء وبمعنى أدق سلاح ردع الدول ذات الإمكانيات الاقتصادية المتوسطة والضعيفة، ورغم أن عدد الدول المنتجة للصواريخ الباليستية ما زال قليلاً للغاية، فإن تكنولوجيا إعادة الإنتاج أو التطوير قد تضاعف انتشار الصواريخ الباليستية قصيرة ومتوسطة المدى حول العالم.
مصر لم تكن بعيدة
تمتلك مصر قاعدة علمية قوية فى مجال التصنيع الحربى ودون مبالغة يمكن أن ترقى بها إذا توفرت الإرادة السياسية والتمويلات المالية اللازمة إلى إنتاج أسلحة استراتيجية مهمة ومؤثرة بما فيها الصواريخ الباليستية ولأن أحد الأهداف الستة لثورة يوليو 1952 كان بناء جيش وطنى قوى أدرك قادتها منذ بواكير هذه الثورة أهمية إقامة صناعة عسكرية وطنية، وكانت صناعة الصواريخ الباليستية أحد أركانها الرئيسية، وبالفعل بدأت مصر برنامجها لتصنيع هذه الصواريخ فى أبريل 1957، ولأن هذه الصناعة كانت مقتصرة فى هذا الوقت على الدول العظمى كان لا بد لمصر أن تستعين بمن يمكن مساهمتهم من العلماء الألمان الذين عملوا فى مشروع فاو-2 (V2) وكان من ضمن الذين وفدوا إلى القاهرة العالم الكبير «وولفجانج بيلز» الساعد الأيمن لأبو الصواريخ «فيرنير فون براون» وبدأ هذا المشروع العظيم يؤتى ثماره على أرض الواقع، وهنا طار لب الإسرائيليين وبدأت أجهزة مخابراتهم حملة إرهاب مسعورة ضد العلماء الألمان أملاً فى تعطيل المشروع، وعندما انطلق فى سماء صحراء مصر الغربية فى 21 يوليو 1962 فى الساعة التاسعة و47 دقيقة أول صاروخ تجريبى، جن جنون إسرائيل التى تراجعت وجبنت عن توجيه ضربة وقائية لقاعدة الصواريخ التى انطلق منها الصاروخ بعد أن رفض الرئيس الأمريكى وقتها «جون كيندى» المشاركة أو الموافقة على هذه الرغبة، بالطبع لم يكن هذا الصاروخ فى ذلك الصباح المشرق من يوليو يحقق النجاح المطلوب لأن مشكلات عديدة كانت فى حاجة إلى حلول تحتاج إلى الجهد والزمن، ومع الإرادة والعزيمة أخذ الصاروخ الباليستى يتقدم حثيثاً ومع مرور الوقت كانت المخابرات الإسرائيلية تمارس أحط الأساليب القذرة لقتل العلماء الألمان الذين يعملون فى المشروع وإرهابهم عن طريق إرسال الخطابات والطرود المفخخة التى لم تفلح فى إلحاق الضرر بهؤلاء العلماء وإن تسببت فى إيذاء كثير من الضحايا كانت أولهم سكرتيرة «وولفجانج بيلز» التى انفجر فيها خطاب أفقدها إحدى عينيها وتسبب فى إصابات أخرى جسيمة، وفى المرة التالية أُرسل طرد مفخخ أسفر عن استشهاد خمسة من العاملين فى المشروع وإصابة العديدين وكلهم من المصريين.
ونجحت أجهزة الأمن فى إبطال كثير من العبوات وتعرض «هانز كلاينفختر» لمحاولة اغتيال فاشلة عندما كان يمضى إجازة فى ألمانيا واستمرت المحاولات الفاشلة بينما مشروع الصاروخ الباليستى المصرى يتقدم خطوة بعد أخرى إلى أن وقعت الواقعة وسقطت مصر فى كمين 5 يونيو 1967، وكان أحد الأهداف الرئيسية من ضرب مصر وإنزال الهزيمة بها إعاقة صناعتها العسكرية، وهكذا اضطرت القاهرة تحت وطأة الهزيمة وإعادة بناء القوات المسلحة مع ضغط الإنفاق إلى وقف مشروعين فى منتهى الخطورة؛ صناعة الطائرة النفاثة حلوان 200 (طراز 003) وهى الطائرة التى تعدت ضعف سرعة الصوت والتى وصلت لمرحلة إمكانية بدء الإنتاج الصناعى، ومشروع إنتاج الصواريخ الباليستية الذى ما زالت أطلال قاعدته باقية وشاهدة على إرادة وطنية أجهضت، وقد عرفت من أحد أساتذة الصواريخ فى الكلية الفنية العسكرية أن الولايات المتحدة الأمريكية حاولت منذ عقود تأجير هذه القاعدة لإطلاق الصواريخ لأنها لا تقل عن مثيلاتها فى الدول العظمى، وكانت هذه القاعدة قد اكتملت قبل النكسة استعداداً لإتمام دقة الصواريخ التى كانت لا تزال فى مراحل التطوير والتى ذهبت بعد 5 يونيو أدراج الرياح.