حيرة «جميلة» بين «فقدان البصر» والموت «جوعاً»: «العمى أرحم»
«جميلة» مع أطفالها
قبل 25 عاماً تغيرت حياتها بالكامل، أصبحت لا ترى إلا بعين واحدة، فقدت بصرها فى عينها اليمنى فيما حافظت على اليسرى بمستوى نظر يحق عليه وصف «الطشاش»، كل هذا نتاج مهنة لم تخترها، بل دُفعت إليها دفعاً، لا لشىء سوى سد احتياجات الأسرة والزوج والقدرة على الحياة ولو على حد الكفاف.. «الباجور» هو كلمة السر فى عجز عينها اليمنى، وفيما يمكن أن يصيب عينها اليسرى، بسبب جلستها أمامه ليلاً ونهاراً لإعداد مشروبات ساخنة ووجبات شعبية للفقراء وعمال اليومية ممن يترددون عليها أمام حجرتها الصغيرة بحى البساتين.
25 عاماً تعد الوجبات الجاهزة والمشروبات على «باجور»
ضيق الحال، ومسئوليتها عن 5 أبناء وزوج مريض كان يعمل «فواعلى» حتى أقعده العجز، كانا دافع «جميلة محمود» للعمل قبل سنوات، تدق الساعة السادسة صباحاً، تتحسس جدران حجرتها التى تشققت من الرطوبة، تجلس على أرض أسفلتية تكسوها كراتين ممزقة وأمامها الباجور لتبدأ فى إعداد الطعام والمشروبات فى سكون، دون أن توقظ البقية: «بقالى أكتر من 25 سنة قاعدة قدام نار الباجور مابتفارقنيش، من بعد ما جوزى وقع من على السقالة وبقى عنده عجز فى رجله ومايقدرش على الشغل، قررت أساعده وأعمل زى كافيتريا صغيرة فى الأوضة ناكل منها عيش، وأقدر أصرف على عيالى وعلاج جوزى».
ساعات طويلة تجلسها السيدة الخمسينية أمام نار الباجور، أهلكت عيونها التى كانت تميزها عن باقى شقيقاتها بلونها الأزرق: «الناس بتقول لى عيونك لونها حلو، وكنت الوحيدة فى اخواتى اللى شكلى زى الأجنبية، وشعرى كان طويل بس الزمن هدنى، وراحت عينيا خالص ومابقتش أشوف بيها إلا القريب منى أوى طشاش، واللى يشوفنى دلوقتى يقول عندى 100 سنة من كتر الهم والشقا»، تفكير جميلة فى العلاج لم يستمر طويلاً، فجولة بين أطباء العيون أكدت أن علاجها الوحيد للحفاظ على ما تبقى من نظرها هو الابتعاد عن «نار الباجور»، ما اعتبرته علاجاً مستحيلاً: «كأنهم بيقولوا لى مش هتتعمى لكن هتموتى إنت وعيالك من الجوع، أكيد العمى أرحم، أصلى ماليش شغلانة غيرها، وهما مالهمش فى الدنيا غيرى».