جابر نصار يكتب: "الاستفتاء المستحيل" على مشروع الدستور
صباح اليوم التالى لإعلان نتائج المرحلة الأولى للاستفتاء على مشروع الدستور كنت أجلس فى مكتبى إذ دخل علىّ أحد تلاميذى من قضاة مجلس الدولة، جاءنى زائراً وقد بدت على ملامحه السمحة علامات الضيق المكتوم والألم الذى لم تفلح ابتسامته الهادئة فى إخفائه، وبعد السلام والكلام عن الأحوال سألته: أخبار الإشراف على الاستفتاء إيه؟ فحكى لى وروى ما يؤكد بغير شك أن الاستفتاء على مشروع الدستور كان فى حقيقة الأمر مستحيلاً، ما أدى فى نظرى إلى بطلانه وانعدام نتائجه ويصبح بغير قيمة قانونية ولا يمكن بأى حال من الأحوال أن يكون مصدر شرعية لهذا الدستور حتى ولو تم إقراره بأى نسبة تكون بعد المرحلة الثانية.
فماذا قال؟ وماذا حكى؟ وماذا روى؟
كان سيادته يشرف على لجنة بها ثلاثة صناديق وكان مجمل عدد الناخبين فى اللجنة ثمانية عشر ألف ناخب، أى إن كل صندوق فى اللجنة مقابل ستة آلاف ناخب بالتمام والكمال، وقد كان فى اللجنة معه ثلاثة من الموظفين، وقد كان عدد الموظفين فى الانتخابات البرلمانية والرئاسية التى نظمها العسكر خمسة عشر موظفاً، بما كان يسمح لسيادته أن يقسمهم كل خمسة على صندوق، ويقسم الكشف عليهم بما يعنى إمكانية دخول أربعة أو خمسة ناخبين فى نفس الوقت. ولكن ذلك لم يتحقق للأسف الشديد فى عهد الرئيس المنتخب -حماه الله- الذى يجب علينا طاعته باعتباره ولىّ الأمر فلا بد أن قلوب العارفين لها عيون ترى ما لا يراه الناظرون، فالموظف الوحيد لكل صندوق طالما جاء فى زمن الرئيس المنتخب فلا بد أنه يساوى أكثر من عشرة موظفين فى عهد العسكر.
المهم عندما اتصل صاحبنا بالمسئولين يشكو إليهم أنه لا يستطيع أن يدخل أكثر من ناخب واحد وأن الطوابير أمام اللجان ممتدة والأعصاب ملتهبة والجموع هائجة، قالوا له لا يوجد موظفون آخرون، وإيه يعنى لما يدخل واحد بواحد؟ وهو ما أدى إلى أن كل هذه اللجنة الطويلة العريضة المقيد أمامها كل هذا العدد الضخم لم يستطع أن يصوت فيها غير ما يقرب من 1400 ناخب فقط، مع الأخذ فى الاعتبار أن سيادته لم يترك اللجنة لحظة واحدة فقد صلى فيها وأكل فيها، فما بالك بمن أغلق اللجنة وذهب يصلى لمدة ساعتين أو ثلاث أو ذهب ليتناول الغداء أو العشاء والذى منه، مضيعاً بذلك حق الشعب فى بسط إرادته فى الاستفتاء على مشروع دستور سوف يحكمه لعشرات السنين أو المفروض أن يحكمه؟
تلك كانت حكايته البسيطة التى كانت تقطر ألماً، حيث كان الحزن يعتصره حينما يتذكر تلك الوجوه التى أصرت لساعات طوال أن تصوت فى الاستفتاء استخداماً لحقها الدستورى وإعلاءً لوطنيتها وحرصاً على مصلحة الوطن، ولكنها لم تستطع، ولم يفته أن ينوه إلى كثير من مظاهر الاحتكاك التى كان البعض يقوم بها عامداً لكى يتسبب فى أن يمل الناس من طول الانتظار أو يتملكهم الخوف فيذهبوا إلى حيث أتوا دون أن يمكَّنوا من أداء فريضة التصويت فى الاستفتاء إعلاءً لمصلحة الوطن.
من هذه الشهادة والشهادات التى تختزلها ذاكرة القضاة الذين أشرفوا على الاستفتاء الذين ندعوهم إلى فضحها وعدم كتمان الشهادة بسببها، ذلك أن الأمر فى حقيقته -وهو كذلك- جريمة متكاملة الأركان فى حق الوطن والأجيال القادمة ومستقبل الحرية والديمقراطية فى مصر، هى شهادة يجب على كل من رآها ألا يكتمها إعمالاً للأمر الإلهى: {ولا تكتموا الشهادة}. ونحن نعلم يقيناً أن قلوب قضاتنا شفافة بيضاء موصولة بالحق والعدل موصولة بعدل الله، وأن مستقبل هذا الشعب فى أيديكم ومتعلق بشهادتكم بأن هذا الاستفتاء هو مستحيل هو باطل ولا قيمة له ولا جدوى منه.
كيف ذلك؟
إن اللجان الانتخابية وفقاً لهذه الحسبة البسيطة إذا كانت اللجنة الواحدة وبها ثلاثة صناديق تشتمل على اثنى عشر ألف إلى ثمانية عشر ألف ناخب مسجل بها، فإنه يستحيل عليهم فى الواقع والقانون أن يمكنوا من التصويت.
حيث لو تصورنا جدلاًَ أن حضر 50% من الناخبين فى صندوق مخصص له 4000 ناخب أى هنا نحسب على الحد الأدنى فى اللجنة 12000 ناخب على ثلاثة صناديق، فمعنى ذلك أنه بحضور 50% سيكون لدينا فى كل صندوق 2000 ناخب، فإذا افترضنا جدلاً -والفرض غير الحقيقة- أن كل ناخب سوف يأخذ دقيقتين تبدأ من التعرف على بطاقته وتوقيعه وتسلمه بطاقة الاستفتاء والتأشير عليها ووضعها فى الصندوق، فإننا نكون بحاجة إلى نحو ستة وستين ساعة ونصف تصويتاً متتالياً دون توقف، أى والله 66,5 ساعة، أى حوالى ثلاثة أيام متتالية ليلاً ونهاراً! وإذا تواضعت أحلامنا وجعلناها دقيقة واحدة فإننا نحتاج إلى 33 ساعة أى حوالى يوم ونصف متتالٍ لكى تتم عملية التصويت!
إن أهل الحكم لدينا قد تسارعت بياناتهم التى تشيد وتتغزل فى الشعب الذى صلبته هذه السلطة فى طوابير ليس لها آخر، وأرادت بتحكمها وانحرافها أن تعذبه عذاباً أليماً لسبب وحيد أنه أراد أن يدلى بصوته فى الاستفتاء.
إن هذه الطوابير التى لم تتحرك أبداً، ولعل المتابع للرسائل الإعلامية التى كانت تأتى فى القنوات الفضائية يلاحظ استغاثة المصريين فى هذه الطوابير اللعينة من أنها لا تتحرك أبداً وكأنها مرصوصة أمام حائط مغلق، إن هذه الطوابير وما حدث فيها وما أدت إليه من منع المواطنين المصريين من الإدلاء بأصواتهم، سبب كافٍ وحده لنزع الشرعية عن هذا الاستفتاء وبطلانه. إن الذين يتحدثون عن خروقات كثيرة وغير منتهية لعملية الاستفتاء سواء تعلقت بالدعاية أو الشحن أو الرشاوى الانتخابية، فاتهم أن يتحدثوا عن منع المواطنين المصريين من الإدلاء بأصواتهم فى الاستفتاء بصورة شديدة الوضوح، وهو أمر لا يصعب إثباته ذلك أن المنطق والعقل يثبتانه بكل سهولة، فهذا هو الاستفتاء المستحيل.
هذا هو الاستفتاء الذى يبرر الاستبداد، وليست هذه هى الصناديق الديمقراطية التى يجب احترام نتائجها، بل هى صناديق مزورة ولا شرعية لها على الإطلاق، هذا حديث العلم وليس حديث السياسة.
لقد كان وما زال التحدى الأكبر الذى يواجه تطبيق الديمقراطية فى بلاد العالم الثالث إنما يتمثل فيما نرى فى وجود ضمان قوى يحول دون الاستبداد بالشعب باسم الديمقراطية وعن طريقها، وذلك بتوظيف الأساليب الديمقراطية كالانتخاب والاستفتاء ووجود برلمان، وإلا تكون هذه الأطر التى من المفترض أن تكون ديمقراطية هى وقود الاستبداد ومبرره.
ولذا وجب أن يكون هناك سياج منيع يحول بين أن تتحول الوسائل الديمقراطية إلى وسائل للديكتاتورية. إن الذين أيدوا الاستفتاء كفكرة، وطالبوا بأن يتضمنه النظام القانونى الحديث فى الدولة المعاصرة، عارضوا تطبيقاته السيئة، التى كرست الاستبداد وكادت أن تعصف بالحياة السياسية كلها واقتلاع ما توفر فيها من حرية وديمقراطية من جذورها اقتلاعاً يعود بنا إلى ما هو أسوأ من النظام الشمولى الفردى. فلا يكفى -والحال كذلك- أن يتضمن البناء الدستورى فى الدولة بين لبناته الوسائل الديمقراطية من انتخابات واستفتاءات، بل يجب أن يكون هناك ضوابط قانونية وإطار محكم يحدد مجال عمل هذه الوسائل ويضمن لها فعاليتها فى النظام الدستورى والسياسى، حتى لا يتحول الأمر إلى ديمقراطية شكلية ومحكومة. إن الضوابط القانونية للاستفتاء يجب أن تصب فى ضرورة أن يكون ممكناً من حيث تنظيمه، بحيث يذهب المواطن -كما فى كل الدول الديمقراطية- إلى التصويت فيه وهو يؤدى واجباً ويمارس حقاً ويساهم فى رفعة وطنه وتقدمه، لا أن يكون التصويت حملة تعذيب بحيث يتوب الشعب كله عن المشاركة السياسية ويترك الساحة للحاكم لكى يستبد باسم شعبه.
ولكن هيهات أن يحدث ذلك فى مصر الثورة التى أحيت فى شعبها الهمة والكرامة والعزة، فهذا شعب لن يستبد به أحد بعد اليوم، حزباً كان أو جماعة، رئيساً كان أو زعيماً، ذلك عهد ولى وانتهى وليعلم ذلك القاصى والدانى.
فتدشين الدستور بالاستفتاء المستحيل الباطل لا يضفى عليه شرعية بل يكون استفتاءً لقيطاً مسروقاً ولد سفاحاً، حتماً سيسقط يوماً ما.
فكم من دساتير صدرت عن طريق الاستفتاء الشعبى وأراد المستبدون الذين يقفون وراءها الإيهام بأن الشعب كان يقف وراءها أو كانت له الكلمة العليا والقرار الفاصل فى إصدارها! إلا أن الواقع العملى دائماً كان يفضح ذلك ويؤكد غير ذلك، فطريقة الاستفتاء الشعبى كأسلوب لإصدار الدستور ليست بذاتها دليلاً على ديمقراطية هذا الدستور، وإنما تكون كذلك بما يحوطها من ظروف موضوعية أخرى، ومنها طريقة وضع نصوصه، وهذه الطرق تختلف وتتعدد فمنها ما يكون قريباً من المفهوم الديمقراطى، ومنها ما يكون بعيداً عن هذا المفهوم.
ومما لا شك فيه أن طريقة هذا المشروع كانت غير ديمقراطية، فضلاً عن توجهات المشروع وفساد تصوراته وابتعاده عن الديمقراطية فى مضمون نصوصه.
إن استحالة هذا الاستفتاء على الوجه الذى بيناه فى هذا المقال يؤكد أن للتزوير وجوهاً أخرى وليس فقط تزوير التصويت، فكل ما يؤدى إلى تغيير أو تعطيل إرادة الأمة هو تزوير، فهناك تزوير بالتنظيم الذى يصبح معه الاستفتاء مستحيلاً، وهناك تزوير بالتصويت حين يغير الأصوات، وهناك تزوير بالتسويد حين تسود البطاقات، فالتزوير له فنون وطرق ودروب، وكلها تؤدى إلى نتيجة واحدة وهى تزييف إرادة الأمة والعصف بها لصالح نظام مستبد أو يتجه إلى الاستبداد مهما تمسح بالديمقراطية أو تشدق بها.
ولعلى أختم مقالى بصورة ما زالت شاخصة فى ذهنى لا تغيب عنه أبداً؛ حيث ما زلت أتذكر صورة السيد وزير الداخلية الذى وقف أمام الرئيس السادات رحمة الله يزف إليه نتائج استفتاء 10 سبتمبر 1981، حيث اتخذ الرئيس آنذاك قراراته الشهيرة التى اعتقل فيها 1536 قامة وطنية وسياسية وحزبية، منها الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل والمرحوم فؤاد سراج الدين وغيرهم كثير، وعزل كثيراً من أساتذة الجامعات وكثيراً من الصحفيين وتم عزل البابا شنودة، ثم ذهب إليه وزير الداخلية لكى يزف إليه البشرى بموافقة الشعب على الاستفتاء بأغلبية كاسحة وصلت إلى 99,45%، فكان هذا الاستفتاء أيضاً مستحيلاً لاستحالة تحقق نتائجه، مثله كمثل الاستفتاء الماثل أقصد المستحيل والباطل على مشروع الدستور.. لله الأمر من قبل ومن بعد.. التاريخ لن يرحم.