ظل المصريون منذ فجر الخميس حتى صباح الجمعة الماضيين يتابعون كل قنوات ومواقع الأخبار والمعلومات، يحدوهم الأمل فى أن تتحقق معجزة العثور على طائرة مصر للطيران وإنقاذ الركاب وأفراد الطاقم سالمين، وفى ظنى أن أحداً لم يكن يفكر فى تصنيف المفقودين بحسب ديانتهم، وأحسب أن الجميع فى مصر والعالم، أياً كانت دياناتهم، كانوا فى صلوات خاشعة فى مساجدهم وكنائسهم ومعابدهم يتضرعون إلى الله العلى القدير أن يشمل المفقودين برحمته!
وما أطل صباح الجمعة حتى اتضحت الكارثة وتأكد سقوط الطائرة فى البحر الأبيض المتوسط قبالة الإسكندرية! وكانت الصدمة القاسية، والحقيقة المرة، أن بعضاً من خطباء المساجد فى مصر وأغلب الظن أنهم سلفيون، فرقوا بين الضحايا بحسب الديانة، فصاروا فى دعائهم قبل صلاة الجمعة يختصون الضحايا «المسلمين» بالدعاء دون غيرهم من أصحاب الديانات السماوية الأخرى حتى من المصريين!
وأعجب لهؤلاء، ألم يقرأوا قول الحق سبحانه فى سورة البقرة «آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ»، وألم يتدبروا قوله جل وعلا فى سورة المائدة «لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ(83)».
ألا يعلم هؤلاء الخطباء ما يقوم به أخوة من أقباط مصر من جهود رائعة فى خدمة الوطن أمثال د. مجدى يعقوب وم. هانى عازر وغيرهما كثر، لا يفرقون بين مسلم ومسيحى، فكلهم مصريون! ألم يسمعوا كلمة مكرم عبيد القطب الوفدى الشهير وهو قبطى «نحن مسلمون وطناً ونصارى ديناً»، وهو من كان يستعين بآيات القرآن، ويقول «أنا مسيحى العقيدة مسلم الهوى مصرى الهوية وهويتى قبل كل شىء».
ألا يتذكر هؤلاء الخطباء أن البابا الراحل شنودة كان من الذين تنطبق عليهم الآية الكريمة «بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ»، وهو الذى رفض ذهاب المسيحيين لبيت المقدس لأنه محتل، وقال «لن ندخل القدس إلا مع إخواننا المسلمين» وهو صاحب العبارة الخالدة «مصر وطن لا نعيش فيه بل يعيش فينا»!
وألا يذكر هؤلاء الخطباء فى مساجد الدولة التى تشرف عليها وزارة الأوقاف للبابا تواضروس موقفه الوطنى الرائع بعدما قام به إخوان السوء الإرهابيون من حرق وتدمير عشرات الكنائس والمتاحف القبطية، حيث دعا الإخوة الأقباط للوقوف صفاً واحداً مع بقية إخوانهم المسلمين فى رفضهم للإرهاب، وأن الأقباط بقيادته كتموا أحزانهم على إعدام «مسلمى داعش» لواحد وعشرين من إخوانهم فى ليبيا، مشاركين المصريين جميعاً بعد ساعات فرحتهم بالضربة الجوية التى نفذها نسور الجو المصريون عقاباً على جريمة «الدواعش» الذين يتبرأ الإسلام منهم!
كان المصريون فى تماسكهم ووحدتهم، مسلمين ومسيحيين، مثالاً للترابط الوطنى والإيثار والتضحية من أجل تحرير الوطن من الاحتلال الأجنبى أياً كانت جنسيته، عثمانياً أو فرنسياً، أو بريطانياً، جاهدوا جميعاً ووقفواً صفاً واحداً مدافعين عن وطنهم، مدفوعين بإيمانهم أنهم على الحق، وأنهم بعون الله منتصرون!
كان معدن المصريين يتجلى فى أوضح صوره حين كان الوطن يتعرض للمحن والهزائم، فكان المصريون على قلب رجل واحد فى الذود عن وطنهم مستعيدين تاريخهم الطويل فى الدفاع عن حضارتهم ومستقبلهم، مستمسكين بدينهم مسلمين ومسيحيين وحتى اليهود منهم رافعين رايات الجهاد حتى يكتب لهم النصر أو الشهادة!
كان المصريون مستمسكين بقيم المواطنة خلال ثورة 1919، ونجحوا فى تحويل الثورة إلى تيار متدفق من الوطنية والفداء، والتفوا حول زعيم ثورتهم، سعد زغلول زعيم الوفد، واستمروا متماسكين متحدين حتى تم جلاء المستعمر البريطانى فى 1956 بعد قيام ثورة 1952 بقيادة جمال عبدالناصر.
كانت قيم المواطنة قد تمكنت من عقول المصريين مسلمين ومسيحيين واستقرت فى وجدانهم وأثرت فى سلوكهم الباطن والظاهر، وكانت لهم بمثابة «عقيدة وطنية» تحكم تصرفاتهم الفردية والجماعية، وتتم وفقاً لها اختياراتهم، واشترك فى الإيمان بتلك العقيدة الوطنية المصريون جميعاً حكاماً ومواطنين وطنيين شرفاء، وكانت مظاهر التمسك بها لدى مجموعة الحكام والزعماء السياسيين من الشرفاء أنهم أخلصوا للوطن وجاهدوا فى سبيل تحقيق أهدافه وسُجنوا وتم نفى أعداد منهم، بل واغتيل بعضهم، ولكنهم أبداً لم يفرطوا فى عقيدتهم الوطنية ولم ينقلبوا على شعبهم مؤثرين السلامة أو متطلعين إلى المزايا التى حصل عليها من فرطوا فى عقيدة وثوابت الوطن لقاء مناصب زائلة أو ثروات أو نفوذ وسلطان لدى الحكام، وكلها زالت بفضل صمود الشعب وتمسكه بحقه فى الحياة والحرية والديمقراطية!
تشمل قيم المواطنة مفاهيم وتعبيرات تعبر عن قيمة الوطن بالنسبة للمصرى المسلم والمسيحى على السواء، الذى اعتاد أن يتغنى بحب مصر كما كان محمد عبدالوهاب يتغنى بشعر أحمد شوقى «حب الوطن فرض علىَّ، أفديه بروحى وعينىَّ»، وكان سيد درويش يشعل حماس المصريين بنشيد «قوم يا مصرى مصر دايماً بتناديك. خد بنصرى، نصرى دين واجب عليك»، كانت قيم الوطنية والفخر بالانتماء لمصر هى الغالبة فى الثقافة المصرية، وحتى فى الفولكلور الشعبى كانت عبارة «باموت فى مصر» شائعة على ألسنة المصريين مسلمين وأقباطاً للتعبير عن شدة انتمائهم لوطنهم وتفضيلهم الموت فى سبيله!
إننا الآن نفتقد القيم الوطنية ومنها قيم المواطنة؛ ونفتقد قيمة أن الجميع فى مصر لهم نفس الحقوق وعليهم نفس الواجبات بغض النظر عن الديانة، بينما يؤكد الدستور المجمد دون تفعيل فى مادته الرابعة «السيادة للشعب وحده، يمارسها ويحميها، وهو مصدر السلطات، ويصون وحدته الوطنية التى تقوم على مبادئ المساواة والعدل وتكافؤ الفرص بين جميع المواطنين، وذلك على الوجه المبين فى الدستور»، ويضيف فى المادة الثالثة والخمسين «المواطنون لدى القانون سواء، وهم متساوون فى الحقوق والحريات والواجبات العامة، لا تمييز بينهم بسبب الدين، أو العقيدة، أو الجنس، أو الأصل، أو العرق، أو اللون، أو اللغة، أو الإعاقة، أو المستوى الاجتماعى، أو الانتماء السياسى أو الجغرافى، أو لأى سبب آخر. التمييز والحض على الكراهية جريمة، يعاقب عليها القانون. تلتزم الدولة باتخاذ التدابير اللازمة للقضاء على كافة أشكال التمييز، وينظم القانون إنشاء مفوضية مستقلة لهذا الغرض» هذا هو الدستور الذى ينكره أصحاب الهوى والمروجون للفتن بين المصريين.
إن أهم ما يجب أن ينشغل به أهل العلم والدين ورجال السياسة والناشطون العمل على إعلاء قيمة التواد والتراحم بين المصريين والعودة بالخطاب الدينى إلى أصوله التى عاشها المصريون ومارسوها سنين طويلة، وتذكير المصريين بقيم المواطنة!
إن أهم ما يجب أن ينشغل به أهل العلم والدين ورجال السياسة والناشطون العمل على إعلاء قيمة التواد والتراحم بين المصريين والعودة بالخطاب الدينى إلى أصوله التى عاشها المصريون ومارسوها سنين طويلة وتذكير المصريين بقيم المواطنة