يقف الشعب المصرى بعد كل كارثة تلحق بالوطن على ضفتَى الكلام، ما بين التسابق على السخرية اللاذعة والتهكم والاستهزاء من المسئولين والدولة والضحايا، وما بين اختلاق الروايات وترويج الشائعات، والتبارى فى التحليلات والتكهنات، والتفنن فى إلقاء الاتهامات على الجانب الآخر!
يا سادة.. إن المثل الشعبى الشهير يقول: «بيت المهمل يخرب قبل بيت الظالم»، لذا أستطيع القول، بقلب مطمئن ويقين كامل، إن الإهمال والعشوائية وغياب المسئولية الاجتماعية والوعى بمفهوم سلامة النفس وسلامة الآخرين، وتفشى الشعور بالأنانية ووضع المصالح الشخصية الضيقة فوق كل الاعتبارات، جميعها هى المتهم الرئيسى فى كل الكوارث والحوادث المتلاحقة التى نشهدها كل يوم، وإن الحرائق التى تلتهم الوطن، ونزيف الأسفلت الذى يحصد عشرات الأرواح، وحوادث غرق المراكب والعبارات وسقوط الطائرات، وانهيار المبانى والعمارات وغيرها من أخطار تهدد أرواح وممتلكات وأموال المصريين كلها «شاهد ملك» على جرائم الإهمال والعشوائية والفساد واللامبالاة التى تعشش فى أوصال المجتمع منذ سنوات طويلة، حتى صارت الآفة التى تأكل الأخضر واليابس!!
وأقول لكل من يبحث عمن يقف وراء الحرائق التى تلتهم الوطن، ويتساءل عن الأيادى الخفية وراء إشعالها: هل سألتم أنفسكم قبل إلقاء الاتهامات، وتعليق كوارثنا على شماعة الإرهاب، كم عدد الباعة الجائلين الذين يعملون بلا تراخيص فى تلك المناطق وغيرها، وكم يصل حجم الورش والمتاجر التى تعمل بلا ضوابط أو احتياطات أمن صناعى؟! وكم عدد التجار الذين يسرقون التيار الكهربائى من خلال وصلات كهربائية مخالفة لكل مواصفات السلامة والأمان؟!
وهل سألتم أنفسكم قبل اتهام قوات الحماية المدنية بالفشل فى السيطرة على حريق منطقة الرويعى، والتندر على تأخر وصول سيارات الإطفاء، كيف تعج تلك المنطقة بالعشوائية؟ وكيف تحولت المبانى السكنية إلى ورش تصنيع ومخازن تعيق حركة المرور والسير فى الشوارع؟ بالله عليكم كيف تستطيع سيارة ملاكى دخول تلك الحوارى المرصوصة بالبضائع والمخلفات على جانبيها.. فما بالك بسيارات الإطفاء الضخمة؟! وبعيداً عن هذا وذاك.. هل تعلمون يا سادة أن مصر تحتل المرتبة الأولى عالمياً فى حوادث الطرق، وأن عدد الوفيات الناجمة عنها يصل إلى أكثر من ألف قتيل سنوياً، بمعدل 131 قتيلاً لكل 100 كيلومتر على الطريق، فى حين لا يتجاوز المعدل العالمى 20 قتيلاً، وأن عدد المصابين يتخطى الخمسين ألفا سنوياً، فيما تقدر الخسائر التى نتكبدها بسبب حوادث السير ما يزيد على 25 مليار جنيه سنوياً!! وأن الدراسات تُرجع سبب تلك الحوادث إلى سائقى المركبات -خاصة الأجرة والنقل- المنهكين بالمواد المخدرة، وأن مئات الشباب المتهور الذين يتسكعون فى الميادين، ويتسابقون بسياراتهم فى الشوارع ليلاً، يلقون حتفهم بسبب ألعاب وحركات الموت التى يطلق عليها «التفحيط والتخميس والتربيع»، تلك الألعاب الخطرة التى انتقلت إلينا من الخليج فى السنوات الماضية وصارت أحد أشهر هوايات يدمنها شباب حصلوا على سياراتهم بلا مجهود أو عناء!!
وما يزيد الطينة بلة حالة التحدى السافر للقانون، ويكفى أن أروى لكم مشهدين لا يفرقهما سوى ساعتين، الأول لسيارة ملاكى تحمل فوق سطحها ألواحاً خشبية تصل إلى عدة أمتار، تتحرك بكل أريحية فى شارع 26 يوليو بالزمالك، أما المشهد الثانى فيصعب تصديقه، حيث كنت فى طريق عودتى أعلى كوبرى 6 أكتوبر، وفجأة بدأت تحدث حالة من الفوضى الشديدة والارتباك بين قائدى السيارات، وبعد لحظات فوجئت برجل فى الخمسينات من العمر يدفع أمامه «تروسيكل»، ولا يبالى بأنه يسير عكس الاتجاه فوق أهم محور مرورى يربط العاصمة!!
واقع الحال يا سادة أنه لم يعد لدينا مشكلات حرائق أو حوادث مرور، أو غرق مراكب وسقوط طائرات أو انهيار مبان، بل أصبح لدينا مشكلات أخلاقية وسلوكية متضخمة ومتراكمة ذات جوانب سياسية وثقافية واقتصادية ونفسية مركبة، تحتاج تضافر علاج جذرى وعاجل!!