الثورة ليست بساطاً سندسياً مطرزاً بأحلام من إستبرق، وليست نهراً يفيض باللبن والخمر والعسل، الثورة طريق الآلام ونبوءة الخلاص، وتوق الوصول إلى سدرة الروح الجسد، فى أرضها وخز المسامير، وفى اللسان حريق، وتاج الرأس أغصان من الشوك، والقربان دم.
هى سلمية، وادعة وشجية مثل أذان الفجر، وهى قارعة كصوت الطبول تحت سماء القوس قزح، هى عيد وأضحية، ووردة يسيل لونها فى صخب الدخان المسيل للدموع، تمتصه أعلام وأحداق وجنائز الشهداء.
إذا نودى لقيامة الشعب فاسعوا للميادين، واصطفوا خلف حنجرة واحدة، بعيون مدججة بالصباح، اقبضوا على الليل متلبساً بجريمة السطو على الحلم، ومحاولة وأد زهرة ابنة العامين.
اثبتوا وتشبثوا ببرهانكم، فلا يليق بكم إلا الاكتمال، وغيركم يرضى بالنقصان ويهلل للغرق.
أقسم بالخامس والعشرين والسادس والعشرين والسابع والثامن والعشرين من ينايركم وأقسم بالحادى عشر من فبرايركم إنكم الأصدق إنباءً من الكتب، والأفصح تبياناً من الخطب.
الساعة فى يدكم، فاضبطوا عقارب المطالب، ولا تتركوا الميدان إلا عند تمام الوقت والمطلب، واحرسوا مكاسبكم حتى لا تقع غنيمة فى أيدى من لا يستحق، أنتم كنانة السهام، فلا تلقوها بالمجان، ولا تتركوا ظهوركم للرماة الأنذال.
يا للزحام فى دوحة المعانى، إذا الثورة الينايرية أينعت، ودانت قطوفها، وساغ شرابها!!
أراكم -الآن- قلاعاً وحصوناً من الحنطة، أرافق سعيكم كجداول ماء، وأشم فى صدوركم رائحة الدخان الممتزج بمسك العرق الشتائى.
يا أيها الصبى الممتشق العلم والشعار ابتعد قليلاً عن فوهة الشارع الجانبى الذى تأتى منه رصاصات الخرطوش الضال.
ويا أيتها البنت الرائعة صاحبة الضفيرة الموشاة بعقد الفل الأبيض -أرجوك- عودى إلى وسط الميدان تحرسك حدائق النعناع، يا أيتها الأم المتشحة بلون الليل السرمدى، تدثرى بعباءة الثوار، إنهم أشقاء الشهيد ولدك، وأصحاب القصاص مثلك.
يا أيها الأحرار عمراً وديناً وطولاً وقصراً، الآتون من صلب الجنوب، وعمق الصحراء، وخضرة الدلتا وسمرة النوبة، ومرافئ الحدود، اليوم يوم الملحمة، انصهار يفضى إلى المنعة، وقوة بمستوى التحدى، واستجابة تليق بنبل المطلب.
أكتب مقالى هذا متكئاً على طرف من أريكة التحرير عصر يوم الجمعة، أتلقى المسيرات القادمة للميدان فى حضن عينى، هذه شبرا، وتلك السيدة، وهؤلاء من مصطفى محمود، تمر -الآن- قوافل النساء الحرائر، ومن مدخل آخر أكاد أغيب فى غيطان من الهامات والسواعد والسيقان والأعلام والبيارق واللافتات، حلقة من الذكر الصوفى، وعمامة خضراء، تلف رأسى فأهتز طرباً وشوقاً فى الحال والمقام.
هل يجدى -الآن- أى حديث أو تصور عن الخاطفين القابعين خلف مقود السلطة، الذى يرتعش فى أيديهم؟!
أكاد أرى خاطفى الثورة يتناولون طعاماً شهياً على نفقة الدولة المصرية، فى القصور الرئاسية، ويمزحون فى سماجة، وهم يسخرون من غضبة الشعب، يتابعون الشاشات ببرود، ويحمدون الله على نعمة التمكين حتى لو كان قلقاً ومهتزاً، أو حتى حراماً.
بركان الغضب المصرى الساطع يتفجر منه الماء، والماء نوعان: نوع فى مسطحات الثورة ينفع الناس رياً وشراباً وغرساً فى طينة البناء، ونوع ينجرف من أعلى إلى السفح فيغرق كل كائنات الليل، وسكان الجحور.
ويوم الثورة مقداره فى حساب الأيام طويل لا ينتهى إلا بعد أن تعانق أشواق التغيير سواعد الإرادة، ويتمكن الثوار من تسلم موقع القيادة فى سفينة الوطن.
وتأتى الأخبار من أقاليم مصر؛ مسيرات وحصار وحرائق وحجارة وخرطوش وقنابل مسيلة ومصابون وشهداء، أرتعش لأخبار السويس وسقوط القتلى من زهور الثورة المصرية، تطاردنى قنابل الدموع باتجاه طلعت حرب، فتقرع أذنى أحداث المحلة وزخم الإسكندرية وسخونة المنصورة، فآوى إلى المقهى البلدى متعباً بعد إنهاك الكر والفر، تأبى معدتى استيعاب فنجان القهوة فأتقيؤه، وأنا ألوذ بحائط من أجساد الشباب الثائر، متمنياً أن تحملنى الأكتاف الدافئة إلى حيث بيوت السويس ومسجد الغريب؛ لأغط هناك فى ألم عميق حزناً على الدم المغدور، وأملاً فى يناير جديد بألوان العلم المصرى.