يبدع المصريون فى خلق لحظات يقفزون فيها وبها على الأزمات، ويوقعونها على الزمن، لتصبح واحدة من أسرارهم التى تعينهم على مواجهة غوائل الزمن، يجددون فيها قدرتهم على البقاء، واستمرار الحياة، ويمصرون حتى معتقداتهم الدينية، ويحمّلونها بفلكلورهم الشعبى الذى ينتقل معهم وهم ينتقلون عبر الزمن من دين إلى آخر، فما مئذنة المسجد ومنارة الكنيسة إلا تنويعات على «المسلة» السامقة التى تتجه برأسها إلى السماء تخطب ود الآلهة، وكذلك الأمر مع المحراب والشرقية التى استلهمت قدس أقداس المعبد المنحوت فى حضن الجبل محوطاً بالرهبة والخشوع كما أراده أجدادنا العظام قبل التاريخ.
ولا يقف شهر رمضان بعيداً عن النكهة المصرية؛ إذ نبدأ معه دورة زمن جديدة تعمق ما استقر فى وجداننا عن الصوم الذى يعنى التجرد والتفرغ لمناجاة الله خشوعاً واستغفاراً وتجديد عهود وتنقية القلب والذهن عبر توبة تمد خيوطها إلى القريب والجار وذوى الحاجات، يقترن الصوم فيه بالصلاة والهذيذ فى النصوص المقدسة وقبل أن يغادرنا يعتكف الصائمون بالمساجد، يقترب المشهد بك من الصوفية والنسك اللذين يطالعانك فى فيافى مصر وأديرتها.
وفى مصر تتحول المناسبات الدينية فى تلقائية إلى مناسبات اجتماعية، وتخرج من إطارها الدينى إلى البراح المصرى، ولعلنا نتذكر ظاهرة «الطبق» الدوار، يخرج ويعود محملاً فى ذهابه وإيابه من بيت إلى بيت بأطياب أكل المناسبة، وقد برع المصريون فى ربط تلك المناسبات بألوان من الأطعمة خاصة لكل مناسبة، البسكويت والكعك للعيد الصغير، واللحم وتنويعاته للعيد الكبير، لا يختلف الأمر من الأقباط أو المسلمين، فالطعمية والفول النابت للجمعة الكبيرة، والحلوى المجسدة فى عروسة وحصان للمولد النبوى، طبق العاشورة فى مناسبتها، وتمتد القائمة لتكاد تغطى السنة بجملتها، وتتبارى البيوت فى منافسة حميمية فى إظهار الكفاءة و«الشطارة»، كانت السمة العامة الحاكمة هى الود والحب، وكانت المصالحة ووصل ما انقطع أحد أبرز مظاهر تلك المناسبات، ربما كانت هذه الخبرة هى سر تماسك المجتمع المصرى آنذاك.
ويحجز رمضان مكانه على قمة هذه المناسبات، فيه تتغير أجندة العائلة المصرية وترتيب يومها، لا فرق بين مسيحى ومسلم، وكثيراً ما يتزامن الصوم عند كليهما، وتصبح مصر فى حالة وجد روحى تحلق فيه بعيداً عن الصراعات وسباق المصالح، وضغوطات الحياة وقلق الغد، ما زلت أذكر «مسحراتى» ذاك الزمان، ودوره الحيوى فى ضبط توقيتات السحور، كان اليوم مختلفاً، تلتئم الأسرة حول مائدة الإفطار، ثم تدير مؤشر «الراديو» لتلتقط حكايات «ألف ليلة وليلة» وتتولى عبر الخيال وضع تصورات لعالمها السحرى، كل واحد بحسب مخزونه وعالمه الخاص، ثم تصتنت إلى الفوازير وتجتهد فى حلها، ثم تتسامر بقدر ثم تخلد إلى النوم، وبعدما ينتصف الليل بنحو ساعة يتناهى صوت «المسحراتى» تصاحبه نقرات رتيبة على «طبلته» الصغيرة، يوقظ النائمين، «اصحى يا نايم وحد الدايم»، «قوم اتسحر وصلِّى ع النبى»، منادياً على الناس اسماً اسماً، كنا نصادقه ونعطيه أسماءنا، فيدرجها فى قائمة النداء، قوم يا محمد، قوم يا على، قوم يا جرجس، قوم يا عبدالملاك، قومى يا أم حسين، كنا نحسبه ميقاتى للمذاكرة فى ليل رمضان الهاجع والهادئ، والامتحانات حينها تقترب من الأبواب، لم تكن المسلسلات وقتها تتربص بالوقت تلتهمه وتبدده، ولم تكن الفضائيات قد وجدت وحين جاءت لم تكن قد تغولت بعد، ونضع أيدينا مجدداً على سر تماسك المجتمع المصرى آنذاك.
دعونا نقاوم موجات الكراهية التى تتربصنا وتسعى لتفكيك أواصر الاندماج الوطنى، بإعادة إنتاج ما لدينا من روابط الود سعياً لحياة أفضل، كل سنة ومصر بخير، بفضل يقظتنا وتماسكنا ومحبتنا وإيماننا بوطننا.