حين تتداخل السلاطات، وتمتزج أنواع الفخفخينا، وتتصاعد أدخنة القيل والقال تارة وعوادم الهرى والهرى المضاد تارة، ماذا يفعل المواطن العادى؟ سؤال يطرح نفسه بقوة وشدة وضراوة هذه الأيام. فالصيام صعب، والحرارة قائظة، والرطوبة خانقة، لكن المشهد السياسى أيضاً صعب، وسجالات الإفتاء لكل من هب ودب قائظة، والأجواء خانقة بفعل إفتاءات تيران وصنافير، وتنظيرات الـ«ميسترال»، ومواعظ وفتاوى ما أنزل الله بها من سلطان، ناهيك عن ضغوط الحياة اليومية التى تبدأ بأسعار الشاى والسكر والزيت ولا أقول اللحم والسمك والدجاج، وتمر عبر فوضى الشارع المرورية التى تعود لتضرب من جديد لتعاود السؤال الأزلى واللغز الأبدى «أين يذهب رجال المرور؟»، وتنتهى بتخمة درامية وغصة تسببت فيها برامج المقالب التى لا يمكن إلا أن توصف بالسفه والهطل وانعدام معايير الإنسانية والمهنية. فوضى فكرية تضرب كما لم تضرب من قبل، جانب منها يرتكز على تسليم مقاليد الشرح والتفسير ومفاتيح التحليل والتبرير لجحافل هادرة من الخبراء الاستراتيجيين والأمنيين والسياسيين والاجتماعيين والاقتصاديين والقانونيين احتكروا مجال تفسير ترسيم الحدود، وسيادة الأراضى، وحيازة الترسانات العسكرية، وتسيير الأمور الاقتصادية، وهو ما أدى إلى تسونامى هادر من التحليل الذى لا يرتكز فى أغلبه إلا على قدرات شخصية، وكاريزما فردية، ورضا وقبول فى الوجوه. جانب آخر من هذه الفوضى الفكرية يعود إلى غيبوبة سريرية شلت حركة جوانب عدة فى الحكومة الميمونة، ما دفعها إلى ترك الناس تضرب الأخماس فى الأسداس، وتسلم نفسها إلى المحللين بحثاً عن معلومة حتى ولو كانت أقرب ما تكون إلى التدليس وفتح المندل. ومن المندل الاستراتيجى إلى السلامندر النيابى، ولمن لا يعلم، فإن السلامندر ليس كائناً أسطورياً كما يعتقد البعض، بل هو فصيلة حية من البرمائيات المذنبة التى تعود إلى العصر الجوراسى الأوسط قبل ما يزيد على 164 مليون عام. ويجبره جلده الرطب على العيش فى المياه أو على مقربة منها أو فى الأراضى الرطبة. وهو يتميز بإمكانية إعادة إنتاج الأوصال أو بعض أجزاء الجسد الأخرى عند فقدانها. والدور البرلمانى أو النيابى الذى يقوم به برلماننا العتيد ما زال رغم كل الجهود يشوبه ضباب قاتم ولا يشعر به المواطن العادى، وبغض النظر عن قدراته الفائقة فى إعادة إنتاج الأوصال التى ظن البعض أنها قطعت إلى غير رجعة عبر نائب فقد كرسيه أو آخر آثر السلامة وخاف من الندامة فالتزم الصمت التام، إلا أنه أثبت بالحجة والبرهان أن أوصاله تعاود النمو وتواصل الازدهار. أخبار البرلمان والنواب تملأ الصحف ونشرات الأخبار، لكنها لا تملأ رؤوس الناس أو حتى اهتماماتهم إلا فيما ندر. قال أحدهم لزميله: «نفسى حد يقول لى كيف غيّر هذا البرلمان حياتى؟!» لكن أحداً لا يملك الإجابة. ومن برلمان سلامندر القادر على إعادة إنتاج أوصاله دون شرط الاحتكام إلى المخ أو حتى القلب إلى المشهد الإعلامى حيث مجموعات تطبل للرئيس دون أن يطلب منها الرئيس، وأخرى تدندن على بابه على أمل أن يلتفت إليها، وثالثة تمضى قدماً فى طريق المعارضة لأنه الطريق الذى يبقيها فى دائرة الضوء، ورابعة لا حول لها أو قوة لأنها رغم مهنيتها ضائعة تائهة فى غياهب الظلمات الإعلامية. هذه المجموعات الإعلامية لم تعد قادرة (وربما راغبة أو كليهما) على المحافظة على مصداقيتها لدى الناس وذلك بعد ما أصبح اللعب على المكشوف. ولعله من حسن الطالع وستر الخالق أن تكون الغالبية هذه الأيام منشغلة بالشهر الفضيل وطقوسه الأصيلة من إغراق درامى وإسفاف برامجى وإبهار فى سبل جمع التبرعات والصدقات والزكاة، بالإضافة إلى درجة حرارة الطقس القائظة التى سلبت المواطنين المساكين قدرتهم على متابعة حدث سياسى هنا، أو إجراء اقتصادى هناك أو خبر ملغوم مسرب فى الخفاء هنا وهناك. لكن رمضان يمضى سريعاً، وسيعود الصائمون الهفتانون إلى سابق عهدهم من متابعة لبرامج الهرى الليلى والإفتاء النهارى. المصريون فى حاجة إلى أن يفهموا ما يجرى حولهم، لا لتحليل رؤية أحدهم لما يجرى حولهم. هم فى حاجة إلى فهم ملف تيران وصنافير بعيداً عن العواطف ومشاعر الثقة فى الرئيس أو أحقاد الكراهية للنظام الذى اختارته النسبة الأكبر من المصريين بعد رفضهم لحكم الجماعة. وهم فى حاجة إلى فهم ملف القروض والمساعدات ومدى ضرورته والآثار المترتبة عليه. وهم أيضاً فى حاجة إلى فهم ملف العشوائيات والضمانات التى تتخذها الحكومة للتأكد من أن القاطنين الجدد لن يتاجروا بالشقق أو يؤجروها لغيرهم أو أن يبقوا عليها مغلقة والبقاء فى أحيائهم الأصلية. وهم يحتاجون لفهم الإجراءات المتبعة للحفاظ على ما تبقى من الطبقة المتوسطة المهروسة هرساً غير مسبوق، التى تجد نفسها مضغوطة من سكان المنتجعات المغلقة ومنهرسة من هجمة القاعدة العشوائية الكبيرة. وهم فى حاجة ماسة لمعرفة ما الذى سيحدث فى منظومة التعليم، هل ستبقى على ما هى عليه من تحلل وتخلخل وترهل؟ أم يجرى نسفها بالكامل والتسليم بأن من خربها بدءاً بكبار المسئولين مروراً بقطاع عريض من المعلمين وانتهاء بواضعى المناهج العقيمة المؤدية إلى البله والهطل ليسوا مؤهلين للقيام بنهضة تعليمية؟ وهم يحتاجون لمعرفة ما ستؤول إليه أوضاع الدواء والعلاج بصفة عامة، وهل يتوقعون تحسناً على نوعية العلاج المقدمة فى المستشفيات الحكومية والجامعية والتابعة لوزارة الصحة؟ هم يحتاجون لمعرفة الكثير من المصادر نفسها، فقد أعياهم تداخل السلاطات.