وقفوا طويلاً بـ«الصاجات» على العتبات «المباركية»: يرقصون - نفاقاً - فى عروض «استربتيز».. ليس فى أوضاعها ووضاعتها مثيل. يجرفون - بأقلامهم وأفكارهم - عقول المصريين الباحثة عن أى أمل فى الخروج من «المستنقع الكبير». ينتظرون إشارة من الإصبع الصغير لـ«شريفهم الكبير!» قبل أن ينفذوا أحكام «الاغتيال المعنوى» بإطلاق كلماتهم «المسعورة» على المغضوب عليهم.
هكذا جلسوا على مقاعد السلطة «الرابعة» التى تحولت - معهم وبهم - إلى «راكعة» لسنوات طويلة. ظلوا يصنعون من الحاكم إلهاً، ومن كلماته - حاشا لله - قرآناً، ومن حاشيته أصناماً يدبّجون من أجلها قصائد التمجيد والمديح، ثم جاءت «٢٥ يناير» لتكشف عوراتهم، وبدلاً من التوارى خجلاً، واصلوا تقديم عروض «الاستربتيز»، وتحولوا من النقيض إلى النقيض: من كانوا يرونه «إلهاً» لقبوه بـ«الفرعون»، مطالبين بإحالته - فوراً - إلى أقرب جحيم، وليس فقط للمحاكمة. مَن كانوا يعتبرونهم خونة وعملاء أصبحوا - بعد ارتداء «النظارة الثورية» - مناضلين وأنقياء، وأصبح ميدان التحرير «قِبلة» صلاتهم النفاقية بدلاً من الحزب الوطنى.
بعد «٣٠ يونيو»، كان متوقعاً لهؤلاء أن ينضموا إلى معسكر المدافعين عن الدولة المصرية لعدة أسباب: أولاً، لأنهم - وبحسب طبيعتهم - من «منافقى كل العصور»، بغض النظر عن «العصر»، فالمهم المصلحة.. والبقاء فى الصورة. ثانياً، أنه ليس من المنطقى بحال من الأحوال أن ينضموا إلى معسكر الإخوان.. «الأعداء التاريخيين» لهم منذ أيام «ولىّ النعم». ثالثاً، لأن «تحديات الوجود» التى يواجهها الوطن فى هذه المرحلة شديدة الوضوح، ولا ينكرها إلا أعمى أو صاحب غرض، فالهجوم على الدولة «من الظهر»، وهى تواجه حروباً ضارية على كل الجبهات.. إنما يعد من درجات الخيانة.
إذن، ما الذى دفع هؤلاء - دون ذكر أسماء - إلى العزف من نفس «النوتة الإخوانية»، وشن هجمات عنيفة ومتلاحقة - دون هوادة أو منطق - على نظام الرئيس عبدالفتاح السيسى؟!. الإجابة عن هذا السؤال مترامية الأطراف، وربما تستحق معها أن ندرس كل حالة على حدة، غير أن هناك مجموعة من «القواسم المشتركة» تجمع بين هؤلاء، وتضعهم فى سلة «التحول الغريب».
أولاً: الاقتراب الشديد - إلى حد الاحتراق - من نظام مبارك، ساهم فى تحولهم إلى «ورق تواليت».. غير قابل للاستخدام مرة أخرى، وقطع عليهم - بفقدهم أغلى ما يملك صحفى أو مفكر: المصداقية - أى خط للرجعة، سواء كانت تلك الرجعة إلى نظام حكم يبحث لسياساته وأفكاره ومشروعاته عن «منظّرين»، أو شعب يبحث له عن «أقلام وأصوات ووجوه» تساعده على فهم ما يجرى على الأرض.
ثانياً: على طريقة المثل الشعبى الشهير «اللى اتلسع من الشوربة ينفخ فى الزبادى»، يحاول هؤلاء أن يتفادوا مجدداً السقوط فى شرك الدفاع عن السلطة بالحق والباطل، فأصبحوا يعتمدون مبدأ «الهجوم على السلطة بالحق والباطل». هم فى تلك المسألة ارتكبوا خطأ «عدم تمييز» واضح، فلا السلطة هى السلطة، ولا الظروف هى الظروف، ولا الشعب المصرى - المغلوب على نخبته.. أو نكبته - هو الشعب بعد ثورتيه فى «٢٥ يناير» و«٣٠ يونيو».
ثالثاً: اكتشف هؤلاء أخيراً أن الكتابة «المعارضة» - فى حد ذاتها وبغض النظر عن أى شىء - أسهل وأكثر ربحاً وجاذبية، وتصنع للكاتب «بطولة» من أول مقال، بعكس الكتابة «المؤيدة» - حتى لو كان معها كل الحق والمنطق والوطنية - فهى أصعب وأقل جاذبية بكثير، ولا تجلب لكاتبها، فى معظم الأحيان، إلا الاتهامات سابقة التجهيز بـ«النفاق والبحث عن مكان تحت شمس النظام الحاكم».
رابعاً: يبدو للجميع أن «أرض النخبة» تتعرض لأكبر عملية «حرث» فى تاريخها، الأمر الذى يعنى أن «طرحة» جديدة فى طريقها إلى الحياة السياسية والإعلامية، وأنه آن الأوان لكل الوجوه «الذابلة» أن تجد طريقها إلى «الانزواء»، غير أن بعضاً من تلك الوجوه تسعى جاهدة إلى الاستعانة بـ«مساحيق التجميل».. لعل وعسى.
القاعدة فى النهاية تقول: المساحيق لا تجدى شيئاً مع «الوجوه المحروقة».