المثقف نوعان، الأول زرقاء اليمامة الذى يرى ويقرأ المستقبل باتساع حدود الوطن والكون، والثانى صندوق القمامة الذى لا يرى أبعد من حواف الصندوق ولا يقرأ إلا مستطيله الضيق الذى يعتبره سقف العالم!، نحن نفتقد فى مصر النوع الأول من أولئك المثقفين، هم قلة نادرة فى محيط هادر من مثقفى الشقشقة والبغبغة والهرتلة والفأفأة والثأثأة، زرقاء اليمامة امرأة كانت ترى من على بعد مسيرة ثلاثة أيام، لم يصدقها القوم عندما أنذرتهم بالخطر القادم، عندما أقسمت أن ما يرونه جذوع وأغصان أشجار هى فى الحقيقة عصابة تهاجمهم وقبيلة تضمر العدوان لهم، وعندما وقعت الواقعة لم ينفع الندم ولم يجدِ الترحم على هذه المرأة التى لم يصدقها أحد.
مثقف زرقاء اليمامة الذى ظل يقرع أجراس الخطر وينذر ويصرخ ها هو الخطر قادم، ها هم التتار والبرابرة على الأبواب، ها هى مصر تباع بالقطاعى للسماسرة وتجار الدين، ها هى هويتنا تذوب وتصهر فى فرن بدوى وهابى، ها هى حياتنا تصير أشبه بالحياة ووطننا أشبه بالوطن وضميرنا أشبه بالضمير، نعيش كأننا فى مجتمع ونصلى وكأننا فى صلاة ونتزوج وكأننا نتزوج ونعيش وكأننا نعيش.. إلخ، لم يصدق أحد زرقاء اليمامة المصرية وهى تحذر ممن اختبأوا خلف أشجار متشابكة من عبارات مطاطة تبشر الغلابة بالجنة الموعودة ومخدرات مسكنة ومغيبة من الزيت والسكر.
مثقف صندوق القمامة لا يجد إلا عبارة أنا انخدعت يا رجالة.. أنا اتضحك عليا!!، لا يصرخ هذه المرة خدعتنى امرأة، لكنه يصرخ خدعنى «دقن»!، المثقف الذى لا ينظر أبعد من أنفه ولا يرى إلا ما هو تحت قدميه لا يستحق هذا اللقب وإن قرأ كل مسرحيات شكسبير وروايات ديستوفسكى، واستمع إلى كل سيمفونيات بيتهوفن وشاهد كل لوحات رينوار وفان جوخ وبيكاسو!، لا تنفع توبته بعد الأوان كما لا ينفع الحج بعد عودة الحجاج والصوم فى أول أيام العيد، فات الميعاد كما تقول الست ثومة، المثقف الذى ينخدع بهذه السذاجة هو خائن لهذه الصفة، المثقف الذى يحل الكلمات المتقاطعة ويعرف العواصم والعملات والمترادفات نوع معروف من المثقفين موجود بوفرة ومرطرط فى فاترينات النشر والفضائيات، أما المثقف الذى يقرأ ويحلل المشاكل والأفكار والرؤى المتقاطعة ويخرج منها بمصباح يضىء للبسطاء دروبهم المظلمة الملتبسة المعقدة، هو من فصيلة نادرة أرجو ألا تدخل المتحف المصرى مع المومياوات!.