ليس مهماً أن تكون ليبرالياً أو يسارياً أو إخوانياً أو منتمياً لأى فكرة عقائدية أو اجتماعية، الأهم أن تكون رجلاً تتطابق أقواله مع أفعاله؛ إذا تحدث صدق، وإذا وعد أوفى، وإذا ائتمن لم يخن، لا يأمر الناس بالبر ثم ينسى نفسه، ولا يطالب الناس بفعل ويأتى بعكسه.. وأتصور أن تلك القيمة هى معيار الفرز الرئيسى لكل المشتغلين بالهم العام، وأن هذه الطريقة فى التقييم الذاتى والموضوعى هى البوصلة التى ينبغى أن ننظر من خلالها للنخبة السياسية، وأجدنى فى هذا السياق الصراعى والمخادع الذى نحيا فى ظله، مضطراً للتذكير الدائم بهذه المنظومة القيمية السلوكية، التى نكاد ننساها هذه الأيام فى مرحلة تكاد تشبه صورة يوم القيامة، حيث يفر المرء من أخيه، وأمه وأبيه، وحيث تذهل كل مرضعة عن ولدها، فى الزمن الإخوانى..
ففى خبرتى المتواضعة، كانت هذه المعادلة التى تمزج كيمياء المعنى يفيزياء الحركة، هى المقياس الذى أرى من خلاله أوزان الناس الحقيقية، فلا يشغلنى المفتونين بحديث فلان وتأثير فلان وقدرة علان على إقناع مؤيديه وسحق خصومه، ولا حيل وألاعيب صاحب المهارات المتعددة الذى يخرج من المطب، كما تخرج الشعرة من العجين، ولا ذلك الذى يتحدث دهراً دون أن يحدد موقفاً، أو ينتج فى الواقع فعلاً حقيقياً.. وما زال يدهشنى ويصدمنى أن تمتلئ الوسائط الإعلامية بتعبيرات عن الذى (مسح بخصمه الأرض) الذى استفز مناظره فجعله يترك الحوار على الهواء ويرمى بالميكروفون على الأرض، والمزعج فى كل هذا أننا نختزل بضاعة الناس فى الكلام، رغم أهمية الكلام والمنطق وقداسة التعبير عن الرأى، فلا نلتفت للعناصر الأكثر أهمية فى التقييم وتتلخص فى نقطتين: الأولى المطابقة بين القول والفعل والثانية عن حجم ما أنتجه فلان من واقع جديد على الأرض، ويمكن التعبير عن هذين العنصرين (الرجولة) فى الموقف، والمؤكد أننا لا نعنى بالرجولة النوع الإنسانى من ذكر وأنثى، فالمعنى يرتبط بالصفة والسلوك، فقد عرفت سيدات فضليات أكثر رجولة فى مواقفهن من آلاف الرجال المنتسبين خطأ لنوع الذكورة، ولا تسعفنى الذاكرة فى الحصر، ولكن يمكننى أن أتذكر منهن الآن: (نهى الزينى ونعمات فؤاد وشاهندة مقلد وياسمين الحصرى وهدى زكريا، وفاطمة نصر وماجدة غنيم وأم خالد سعيد وأم محمد الجندى وأم سليمان خاطر وتهانى الجبالى وأمل محمود ومنال عمر ونيفين مسعد ونوارة نجم ومنال الطيبى وسميرة إبراهيم....).
.. أما الرجال الرجال فهم كثر وهم ليسوا موزعين على تيار واحد فكرى أو أيديولوجى، ولا أنظر لهم من خلال بوصلة الجماعة السياسية التى أنتمى إليها، بل من منظار (الرجولة) حينما تعبر عن استقامة فى الموقف دون ازدواجية مرضية، وحينما تكون إنتاجاً يضيف زاداً للعلم والمعرفة أو لقيمات تقيم أود الناس.
وليس مهماً أن ينتمى لأبعد فصيل عن توجهاتى السياسية. وليس رجلاً بالمعنى السياسى ذلك الذى يمارس الاحتجاج أو الرفض أحياناً ثم يذعن ويقدم الولاء والطاعة فى النهاية إذا اشتدت عليه العاصفة أو رمى إليه النظام الاستبدادى بجزرة المنصب، فالمهاتما غاندى ذلك الراهب الهندى الذى أحدث ثورة كبرى فى زمن المقاومة السلمية والعصيان المدنى فى مواجهة الإنجليز له قولة شهيرة: (لو أن الرجل يشعر أنه ليس من الرجولة أن يطيع القوانين الجائرة، فلن يستطيع أى طاغية أن يستعبده).
وكأن الزعيم الهندى المقاوم يريد أن يقول إنه ليس من الرجولة الخضوع للاستبداد، وأن شرط الرجولة يكفى لمواجهة أكبر الطغاة، طالما التزم المقاوم بثبات موقفه من الظلم والظالمين..
أما النخبة -عندنا- فعلى استعداد دائم للنسيان والتواطؤ على بعضها البعض طالما التقت المصالح بعد أن تفرقت بهم السبل، لكن الشعب المعلم لا ينسى لأن ذاكرته بلا ثقوب باعتبارها ذاكرة تعبر عن الضمير الجمعى، فما زال الناس يسخرون من الذى يقول قال الله وقال الرسول لكنه يأكل مال النبى، أو عن الذى يتحدث ليل نهار عن الفقراء بينما يعيش فى الفيلات والقصور وتربطه بسارقى الفقراء علاقات مصالح، أو عن ذلك الذى يتحدث عن الوحدة وكل أفعاله تدعو إلى الفرقة، أو عن الظالم الذى يزين مكتبه بلوحة (العدل أساس الملك)، أو عن ذلك الشيخ الهرم الذى لا يغض الطرف عن النظر لمفاتن النساء.
والخلاصة أن (الرجولة) كمعيار للفرز، هى -بحسب معرفتى وخبرتى المتواضعة- ليست مجرد معطى أخلاقى وقيمى، بل أيضاً بوصلة التقييم السياسى والاجتماعى والإيمانى، ومن نافلة القول أن تكون رجلاً تعنى لا يمكن أن تكون فرداً فى قطعان السمع والطاعة أو كذاباً فى القول والفعل أو فاحشاً فى القول وطاغية تتسلط على عباد الله.