مثلما كان حديث الساعة ونجم الأحداث ومركزها داخل حركة فتح وخارجها فى الآونة الأخيرة، كان النائب محمد دحلان نجم اللقاء الذى أجراه مع قناة دريم بحديثه الهادئ المتوازن! يبدو أن القيادى المفصول من حركة فتح أراد القفز على إثارة الاختلاف والاتجاه نحو تصحيح المسار ورفع راية التسامح وتغيير اتجاه البوصلة بتخفيف حدة الاحتقان بينه وبين الرئيس محمود عباس، فتميز حديثه بالكياسة والاتزان الملفت، بل كان أكثر دبلوماسية وعقلانية فى عرض الحقائق واستقراء المشهد الفلسطينى، لم يكن مهاجماً ولا متجاوزاً فى حق الرئيس محمود عباس عدوه الأول، بل أبدى تسامحه فيما يخصه لطى صفحة الثأر والخلافات والخصومة والمضى قدماً لفتح صفحة الوفاق، أراد «دحلان» إرسال رسالة فلسطينية بمذاق شعبى بأن يده ممدودة للجميع خصومه قبل أصدقائه فى سبيل وحدة الصف الفلسطينى وإنهاء الحالة الضبابية التى تعيشها القضية الفلسطينية، تطرق للمصالحة وضرورة ترتيب البيت الفلسطينى، استنكر هجوم الحركة على التدخل العربى لرأب الصدع الذى ضرب الوحدة الفلسطينية والدور المصرى المحورى فى المعادلة الفلسطينية، وعلاقته بدولة الإمارات العربية ولقاءاته المتعددة بالرئيس السيسى، نافياً أن تكون هذه اللقاءات بنية استبعاد الرئيس أبومازن أو بديلاً له، كما تتهمه الدوائر المقربة من الرئيس عباس.
صدق من قال إن السياسة مصالح وتحالفات لا تعرف العواطف، فى حديث «دحلان» تغير ملحوظ فى الأداء ولغة الحوار وانتقاء الألفاظ بعيداً عن التوتر أو الاتهام أو إلقاء اللوم على طرف بعينه وإن كانت لديه تحفظات على الأداء والممارسة داخل الحكومة والسلطة، فى كل موقف سياسى جاء على ذكره «دحلان» كان الزعيم الراحل الرئيس ياسر عرفات حاضراً، «أبوعمار» الذى دخلت من بعده القضية الفلسطينية نفق اليتم والفرقة وانفراط العقد، وتسللت الخلافات والانقسامات بين الفصائل السياسية فأضعفت أهدافها، وجعلت القضية الفلسطينية فى أضعف حالاتها، فلم تعد قضية العرب المركزية، بل تراجعت من بؤرة الاهتمام العربى، ازدهر فيها الانقسام وعصف بوحدة الفلسطينيين، فرقتهم الخلافات وسمحت بتفتيت وحدتهم. ربما كان «دحلان» معبراً عن الحالة الفلسطينية أكثر من أى وقت مضى، وربما يتطلب حديثه الاهتمام بالتزامن مع المبادرة التى طرحها د. رمضان شلح، الأمين العام لحركة الجهاد الإسلامى، للم الشمل الفلسطينى بإنهاء الانقسام وإلغاء أوسلو والعودة للمقاومة والتى لاقت ترحيباً واهتماماً من معظم الفصائل وأطياف الشعب، أيضاً فى ضوء حديث تغذيه إسرائيل باقتراب تنصيب إسماعيل هنية رئيساً للمكتب السياسى لحركة حماس بدلاً من خالد مشعل الذى ستنتهى ولايته بداية العام المقبل بعد نقاشات مطولة عقدت فى قطر واستحواذ «حماس» على غزة بدعم تركى قطرى كى يظل الوطن وطنين والحكومة حكومتين والشعب شعبين، فضلاً عن مستقبل العلاقة مع إيران وحزب الله وسوريا ومصر، خاصة أن «مشعل» ما زال معارضاً لفتح علاقة جديدة مع طهران بسبب ما يجرى فى سوريا والاشتراطات التى تضعها إيران على «حماس» لعودة التحالف معها.
إذاً ما هى الرسائل التى بعثها «دحلان» للفلسطينيين من خلال اللقاء؟ هناك رسائل عديدة موجهة للرئيس عباس بأن فلسطين أكبر (منى ومنك)، فالسلطة أصبحت حارساً على أمن إسرائيل عبر التنسيق الأمنى الذى يصر عليه الرئيس عباس حتى فى أحلك ظروف القمع الإسرائيلى للفلسطينيين، فضلاً عن ممارسة السلطة الفلسطينية سياسة العصا والجزرة على غرار سياسة وزير الدفاع الإسرائيلى، أفيجدور ليبرمان، تجاه الفلسطينيين، فالسلطة الفلسطينية تمارس فاشية ضد معارضيها، بسياسة الإقصاء لمن كانوا موالين لها حتى داخل حركة فتح سواء بالفصل أو الاعتقال أو قطع الرواتب، وهو نهج جديد فى العقاب مقارنة بما كان يحدث فى عهد الراحل «أبوعمار»!
هناك انقسام لا يريد البعض له أن ينتهى، وهو الحلقة الأضعف والخنجر فى خاصرة الوطن، ويبدو أن طرفى الانقسام استراحا لتلك الصيغة وما يبدو فى ظاهر التصريحات من رغبة لإنهائه هو مجرد ذر للرماد فى العيون، وهناك شعب ضاق بالحصار والصراع على شفا الانفجار، لا يمكن إنكار أن «دحلان» شخصية مختلف عليها وكثرت الأقاويل بشأنه وربما يكون غير مستحب ولا مرغوب فيه من أطياف مختلفة، لكن أيضاً الرئيس أبومازن لن يكون القائد الرمز ياسر عرفات بفطنته المعهودة وذكائه السياسى الذى استطاع أن يجمع بين الشدة واللين فتحلق الشعب الفلسطينى بكافة أطيافه السياسية حوله حتى المختلفون معه والمعارضون له، لكن ما يحدث هذه الأيام داخل الأراضى الفلسطينية لا يشى بالتفاؤل بل بكارثة محققة تطرق الأبواب وسط الحديث عما بعد الرئيس عباس.