أرجوك، احبس أنفاسك، وامش الهوينى، حتى لا يشعر بك المستلقى فوق أريكة العشب على شاطئ جزيرة الورد، لا تزعجه بوقع أقدامك، ليتك تخبئ نفسك خلف الجدائل الخضراء لصفصافة النيل لتشاهده فى امتداده الأسطورى، دع عينيك تسمع، وأذنك ترى كونشرتو الكمان أوتاراً من أعواد الحنطة، فوق أقواس من عقيق الشمس.
إنه الآن يغفو إغفاءة الحكمة، يستحضر وجوه وقامات أبناء جلدته، ينهمر شلال الصور، كتدفق القمح فى أجران الحصاد، تنفتح خزائن الجمال على مصاريعها، تستطيع ذاكرة الحكيم محمد غنيم أن ترسم مشاهد نادرة وحميمية للقاء فى ظلال النخيل يجمع أستاذ الجيل، لطفى السيد بالعبقرى محمود مختار، يستمعان لجندول على محمود طه بصوت أم كلثوم، بينما يجلس الشيخ محمد متولى الشعراوى بجوار نجيب سرور، يتهامسان ببعض الملاحظات الشعرية، أما زكى نجيب محمود، فقد مال قليلاً على أذن زكريا الحجاوى، ليؤكد أن حكمة الشعوب هى أم المعرفة، فيصيح الحجاوى: تقصد أن الثقافة الشعبية أسبق من الفلسفة؟ انتبهت كوكب الشرق للصوت، فنظرت إليهما بحسم رقيق.
فى هذه اللحظات، كانت الشمس قد دخلت بيت الأفول، وهنا نظر سليم حسن لساعته وهتف للشيخ المستغرق فى بحر الإنصات، قائلاً: أرحنا بها يا نقشبندى!
حينئذ ارتفع الصوت السماوى من مقام الحجاز، فاهتزت له أعمدة الكون طرباً وانتشاءً وتسابيح، وعند اصطفاف الصلاة، اشتجر أمر الإمامة، بعد محاولات عديدة للتخلى عن موقع الإمام، فالشيخ الشعراوى يقدم محمد حسين هيكل، وهيكل يقدم لطفى السيد، ولطفى يقدم النقشبندى، فاضطرت أم كلثوم للتعليق: إذا كان من شرط الإمامة، الأكثر حفظاً للقرآن فليتقدم نجيب سرور!
نظر نعمان عاشور لأحمد مستجير كأنه يستنجد به، فضحك أستاذ الجينوم قائلاً: ما دام الحمض النووى لكل هذه الصحبة واحداً، فالكل يصلح للإمامة، لكن الشعراوى حسم الأمر تماماً حينما قدم القاضى ابن لقمان لصلاة الجماعة.
الآن يفتح الحكيم محمد غنيم عينيه عن آخرهما، ثم يفرك جفنيه بظهر يده، واقفاً قبالة كوبرى طلخا ملوحاً للمظاهرة التى تهتف بسقوط النظام، وفى لحظات كان محمولاً على الأكتاف، وفى الأجفان، وفى حدقات القلب، أعطوه مكبر الصوت، فنادى: سلمية.. . سلمية.. . سلمية.. . إيد واحدة.. .. إيد واحدة.. .. عيش.. حرية.. عدالة اجتماعية، وطافت الحناجر والسواعد والأقدام بالشوارع والميدان من الكورنيش، للجامعة، للمحافظة، لميت حدر للسكة الجديدة، لموقف مصر، حتى توريل، وما زال نيل الثورة يجرى فى الأوردة الساخنة، تلك الأوردة التى نكاد نراها فى التقاء مسيرة عمال سماد طلخا بمسيرة فلاحى تلبانة.
فى هذه الأثناء، كان غنيم الحكيم قد انفلت من شدة الإجهاد، ليصل نادى (الحوارة) على نيل المنصورة، لا ليرتاح قليلاً من طوفان المظاهرة، لكنه على موعد مع بعض تلاميذه ومريديه ليحدثهم عن نتائج أبحاثه فى الخلايا الجذعية، كان يتحدث بنهم ويشرب قهوته ببطء، بينما أذناه ترهفان السمع لموسيقى باخ، أما عيناه، فتتصفحان الوجوه مرة والنيل ألف مرة، لم يلتفت مرة واحدة لرؤية الأرقام التى تطلبه على هاتفه المحمول القريب من يديه، الحكيم يحب الإنجاز والإيجاز.
فلنتركه -الآن- يطوف بمركز الكلى بسيارته المتواضعة، ثم يتوقف لينظر كفنان محترف إلى المشهد الخارجى، ليرى التناسق بين المعانى والمبانى وألوان الورد، وسيمترية النوافذ والمداخل، أستطيع الآن أن أتأمل انشغاله الرسولى بدعوته علاج الفقراء، إنهم عيال السماء وسواعد البناء، فمن لهم فى دولة الظلم سوى الحكماء، وكأنك يا غنيم تصدع بما تؤمر، حين أسست صرح العدل الاجتماعى طباً ودواءً وانحيازاً وطنياً وثورياً خالصاً، وحين أسهمت فى نهضة البحث العلمى أستاذاً ورائداً يعلم الغرب فنون الجراحات، وحين تخطيت المعبر باتجاه فلسطين تحمل مشارط العلاج ومصابيح الكشف عن مؤامرات الذبح العلنى، وحين رفعتك جماهير التغيير قبل الثورة وبعدها، كقائد لمسيرة الاستمرار واستكمال الأهداف.
وأجدنى -عند هذا الحد- تواقاً لسرد تفاصيل الرحلة والصحبة فى حوض النيل الأفريقى مع الحكيم غنيم وبعض الرموز الوطنية، من المطارات للأدغال للبحيرات الكبرى، للقاءات الرؤساء، وأستطيع تلخيص الحكيم بوصف الصخرة التى يتفجر منها الماء، فالجدية مهما كان سمتها، لا يمكن أن تخفى طفولته، ومهما كان الانشغال ستظهر طرفته، ورغم قسوة الحياة وخشونة الطبيعة من حولنا، فلا بد له من اكتشاف متعة جديدة غابت عن الجميع، فالوجود مع غنيم يعنى أنك مع حارس كبير من حراس الحياة.