عاشت «بهية» والحارة أياماً احتفالية بعد نجاح «الشاب حسن» فى القضاء على «عرفة» ورجاله.. ورغم ذلك تسرب القلق إلى قلب «بهية» وهى ترقب اندفاع أهلها فى الفرح، دون أن يفكر أحد فى القادم من الأيام.. حتى «حسن» بدا مزهوّاً بنفسه، غير مصدّق لما حدث؛ إذ كيف يستوعب الشاب الصغير أنه حقق ما عجز عنه رجال كبار بـ«شنبات»، لا سيما أنه ظل أياماً عدة مرفوعاً فى الحارة فوق الأكتاف والأعناق!
وحده «درويش» احتفل معهم يوماً واحداً حتى صدّق الجميع أنه كان وراء وبجوار «الشاب حسن» فى معركته ضد «عرفة»، وكعادته اختفى «درويش» فى دهاليزه السرية.. لم يدرك أحد، حتى «بهية» البهية، أنه يخطط ويدبّر للانقضاض على السلطة فى الحارة الساذجة؛ لذا كان طبيعياً أن يتودد إلى «حسن» ويزرع بداخله المخاوف من تكالب الفتوات والبلطجية على «الحارة»!
قال «درويش» لـ«حسن» ذات مساء: «أخشى على الحارة من ذئاب الليل.. وأنت ما زلت صغيراً لا تعرف ما خَبِرتُه أنا طوال 84 عاماً، هى عمرى.. وأنت تعرف يا أبوعلى أننى أعطف على المسكين وأداوى المريض وأسد حاجة الفقير.. والحارة مشاكلها كثيرة وأنا سأراعى ربى فى الصغير قبل الكبير».
كان «درويش» يتحدث ممسكاً بـ«سبحة» 100 حبة.. صدّقه «حسن» وذهب إلى «بهية» وأفضى لها بما ينتوى.. وضعت الصبية، التى لا تشيخ، يدها على قلبها خوفاً من «درويش»، قالت لـ«حسن» بصوت واهن: يا ابن كبدى وقلبى وروحى.. «درويش» زى «عرفة» بس بلحية وسبحة.. «درويش» عجوز مثل «عرفة».. كلاهما وُلد فى عام واحد.. الناس لا تعرف «درويش» الحقيقى؛ لأنه ببساطة لم يجلس مكان «عرفة».. أهلُك لك.. وأنت لأهلك.. شمِّر عن ساعديك وأمسك بدفة المركب.. لا تتركها لـ«درويش» الخبيث!
للمرة الأولى لم يسمع «الشاب حسن» كلام «بهية».. لم ينفُذ بداخلها ولم تستطع إقناعه.. ربما لأن نشوة الانتصار حجبت الرؤية والرؤيا عن الشاب الصغير.. ذهب «حسن» إلى أهله وقدم لهم «درويش» حاكماً.. هلل له «الفقراء والجوعى والمرضى والجهلاء».. ووجده آخرون، ممن خانهم وعيُهم، أرحم من المجهول.. بينما صرخ فريق آخر من مأساة تفوق فى كوارثها عصر «عرفة» البلطجى..!
ركب «درويش» كرسى الحاكم.. وزّع رجاله فى الحارة إلى نصفين: نصف يعمل فى النور.. والنصف الآخر ظل يدبر ويخطط وينفذ تحت «الأرض».. لم تمر أيام قليلة حتى أسفر «درويش» عن وجهه الحقيقى.. طلب من الناس أن «تصلّى» له كل صباح.. تقف بين يديه للحصول على البركة والرضا.. «أنا ظل الله فى الأرض.. أنا بابكم إلى الجنة أو هاوية كل متمرد فى جهنم».. هكذا كان يصرخ كل دقيقة وفى يده «كرباج» بدلاً من «السبحة».. غير أنه لم يكتفِ بـ«الكرباج» لكل من يقول له «لا» وإنما فرض الإتاوات على أهل الحارة ليسدد الثمن لمن ناصروه ودعموه من الحارات المجاورة!
لم تكفِ الإتاوات رغم الجوع الذى توحّش والفقر الذى سكن البيوت.. فعمد «درويش» إلى اقتطاع أجزاء من الحارة الفقيرة ومنحها للحارات المجاورة.. كان يقول لنفسه دائماً: «هذه ليست حارتى.. هؤلاء ليسوا أهلى وعشيرتى.. حلفائى هم أهلى وناسى وعشيرتى ودينى ودنياى».. هكذا كان «درويش» منذ وُلد فى عام 1928..!
صرخت «بهية» البهية من جديد.. وصرخ وبكى فى «حِجرها» حسن المصدوم. قال لها وهو يذرف دماً من عين مخدوعة: «سامحينى يا أمى..» .. ربتت على كتفه وقالت: «لن أسامحك حتى تعيدنى إلى نفسى.. وتسترد الحارة من درويش النصّاب».. خرج «حسن» للكفاح من جديد، غير أنه فوجئ بجيش «درويش» يرفع فى وجهه السلاح.. أما «درويش» فقد خطب مراراً فى أهل الحارة: «حسن خاين.. باع أهله للشيطان».. صرخ «حسن»: أنا خاين؟ أنا الذى انتشلتُك أنت وأتباعك من ذل وقهر «عرفة»؟.. كنت فين يا «درويش» 84 سنة و«عرفة» يدوس على رقبتك وينتهك حرمة بيتك، ويقيدك بالسلاسل والجنازير؟.. عشت يا «درويش» جباناً خانعاً ولم تقف مرة واحدة فى وجه «عرفة».. الآن أصبحت بطلاً على من حررك من العبودية!
مشى «حسن» هائماً على وجهه.. تاهت بوصلته.. أما «بهية» البهية فقد لطمت «درويش» على وجهه حين ذهب إليها طالباً تزويجها لفتوة الحارة الصغيرة المجاورة.. كان الفتوة الذى يملك مالاً وفيراً يحكم حارة لا تتجاوز مساحتها «غرفتين وصالة».. لكنه كان يغدق المال على «درويش» وأتباعه.. وبعد أن دانت الأمور لـ«درويش» كان عليه أن يستجيب لـ«الفتوة الناقص» وأن يزوّجه «بهية» عرفياً ويؤجر له ناصية الحارة ووسطها وقمتها..!
لطمته «بهية» وكادت تلطم خدَّيها، لولا عزتها وكرامتها.. غير أن «درويش» أمسك برقبتها وصرخ فيها: هتسمعى الكلام وهعمل اللى أنا عايزه.. بصقت على وجهه وقالتها مدوّية فى الحارة والحارات المجاورة: «بهية لا تُباع ولا تُشترى.. حسن راجع راجع.. وإن لم يعد سألد من رحمى مليون حسن.. وسترجع أنت وأتباعك إلى جحور الفئران»!
الحكاية لم تتم بعد.. حتماً ستكون لها بقية.
المقالات السابقة:«بهية والذئاب».. دراما من الواقع (2)بهية والذئاب.. دراما من الواقع «1»