أعتذر سلفاً عن هذا العنوان الطويل للمقال، ولكن من يستطيع أن يغير أكثر من كلمة واحدة من كلمات صلاح جاهين؟
فى صياغة عبارة شعرية لبرتولد بريخت فى رائعة «دائرة الطباشير القوقازية» قالها كما يلى: «هنالك شىء فى عالمكم أيها الطيبون غلط»، فضل الكلمة الموحية «غلط»، ولم يقل خطأ. وهكذا فعلت، وإن كنت ذكرت الإعلام، لأنه موضوع المقال، وإن كان «الغلط» شائعاً فى الحالتين!!
والحكاية تتلخص فى أن برامج التوك شو، وبصرف النظر عن زحمة إعلاناتها وتورم شخصية بعض مقدميها، تتعرض لكثير من القضايا المهمة ثم تنحرف فيها المناقشات بشكل يحولها إلى ما أسميه «توك توك شو». أصوات عالية، ومضمون متهافت، مثل أغانى التوك التوك، التى يفرضها السائقون الصغار على ركابه المساكين. وبذلك، يفقد الإعلام فى هذه البرامج عالية المشاهدة دوره التنويرى المفترض، إما بسبب سوء اختيار بعض الضيوف، أو سوء إدارة الحوار، أو بسبب الأمرين معاً، وهو الأغلب.
وقبل أن أتطرق إلى ثلاثة أمثلة محددة للتدليل على ما سبق، أود أن أوضح ما أعنيه بالدور التنويرى المفتقد للإعلام، لأن غيابه هو قمة «الغلط». لقد تراجع فعل القراءة فى مجتمعنا بشكل مزعج، رغم الفرص الحقيقية المتاحة (مكتبة الأسرة، المركز القومى للترجمة وغيرهما)، تضاءل الأمل فى الاستفادة السليمة من الإنترنت مؤقتاً على الأقل، والتعليم ما زال مقصراً فى تنوير ملايين بإكسابهم التفكير الناقد وحب المعرفة، والأنشطة الثقافية بعضها احتفالى، وبعضها الآخر قليل ومحصور ومحدود الأثر. دعونا نحاول أن نكون أكثر أملاً، أو أقل يأساً)، وتقدم ما تعتقد أنه نقد بناء لصالح المجتمع، كما هو لصالح القائمين عليها. وهنا ننتقل إلى الأمثلة المختارة كموضوع للنقد، ونحاول أن نعرضها من زاوية مختلفة عما حدث فى البرامج التى تعرضت لها.
نمَت فى البرلمان مناقشة موضوع «خدش الحياء»، وهو مصطلح فضفاض، يناقش فى سياق العمل الفنى بصورة تختلف عن إتيانه فى الأماكن العامة مثلاً. عرض الأمر على أن أحد النواب قال إن نجيب محفوظ كان من الممكن أن يتهم بذلك، لقد حدث ذلك فعلاً، لكنه نصف الحقيقة، وإن كان قد وصف بأنه محاولة ثانية لاغتيال صاحب «نوبل». من أتى باسم نجيب محفوظ إلى المناقشة، و«جرجر» النائب إلى هذا الانفعال الخاطئ؟ ومن أدرج فى بعض البرامج نموذجاً قبيحاً لعمل نرفضه، ونرفض أيضاً القانون الذى يسجن صاحبه، ونطالب بتعديله؟ من حق المتلقى، وليس الناقد فقط، أن يقول رأيه قبولاً أو رفضاً. هنالك أعمال هابطة، وإدراجها مع نجيب محفوظ محاولة اغتيال ثالثة، لو صح التعبير، هذا الأسلوب يضر التنوير الذى نحتاجه بشدة، دون تطرف فى الحجر على الإبداع، أو التطرف فى الدفاع عما هو ليس بإبداع باسم حرية التفكير والتعبير. هذا الاغتيال طال عظماء مثل طه حسين وعلى عبدالرازق ونصر أبوزيد فى واقعة أخرى ليس هذا مجالها، بخلط العملة الجيدة مع الرديئة، باسم حرية التفكير والتعبير أيضاً وهذه ضربة أخرى للتنوير.
إننى أشعر بالأسف حيال رد الفعل السلبى تجاه أغلب «مصطلحات التنوير»، كما أصفها: حرية التفكير والتعبير والإبداع، التفكير الناقد، العلمانية، حق الاختلاف، الدولة المدنية... إلخ. ولا تفسير عندى إلا «غلط» البعد عن تطوير السياق الثقافى من داخله بعقلانية واحترام، والخلط المسىء بين الجيد والردىء، و«جرجرة» الحوار إلى المواقف الانفعالية المتطرفة، والتعامل «المارق» مع التراث، الذى نرفض تقديسه أو تجريسه، لأنه نتاج بشرى ننتمى إليه، ومن حقنا أن ننقده ونتجاوزه ونستفيد من دروسه الإيجابية والسلبية.
وللحديث بقية.