- عندما نزل جبريل الأمين على الرسول «صلى الله عليه وسلم» خاف منه خوفاً شديداً وذهب إلى زوجته السيدة خديجة قائلاً: «زملونى، دثرونى» فطمأنته كأفضل ما تفعل زوجة صالحة فى التاريخ وكأفضل ما تقول زوجة لزوجها: «أبشر فوالله لا يخزيك الله أبداً فأنت تقرى الضيف وتغيث الملهوف وتعين على نوائب الدهر» ثم أخذته إلى ابن عمها ورقة بن نوفل وكان ممن يقرأ فى الكتب الأولى فطمأنه بقوله «هذا الناموس الذى أنزله الله على موسى، يا ليتنى كنت فيها جذعاً «أى شاباً»، ليتنى كنت حياً إذ يخرجك قومك»، فدهش رسول الله «صلى الله عليه وسلم» وقال: «أو مخرجى هم».
- لقد أخبره ورقة بكل ما سيحدث معه من أذى وتنكيل وسب وتكذيب، ولكن الرسول «صلى الله عليه وسلم» لم يستوقفه شىء سوى إخراجه من وطنه، فقد توقع كل شىء ولكنه استبعد أن يخرجه قومه لما يعلمونه عنه من مكارم الأخلاق وحبه للناس وحب الناس له، وكأن هجرة الأنبياء من أوطانهم وإخراجهم منها قدر مقدور، وأنه لا كرامة لنبى فى قومه، وأن كبراء وزعماء الناس يضيقون ذرعاً بدعوات الرسل والصالحين مهما كان نبلها وشرفها.
- وعلى هذا النهج سار الأنبياء جميعاً، ولكن هؤلاء الرسل هاجروا وهم كبار ولكن المسيح هاجر وهو طفل صغير مع أمه ومعهما يوسف النجار، فقد علم هيرودوس بمعجزة هذا الوليد وأنه يكلم الناس فى المهد وكانت لديه نبوءات أن ملكهم سيزول على يدى هذا الصبى فطلب حراسه بالبحث عنه والقبض عليه.
- رأى يوسف النجار فى المنام من يناديه قائلاً: «قم وخذ الصبى وأمه واهرب إلى مصر لأن هيرودوس يطلب الصبى ليهلكه» كما ورد فى إنجيل «متى» فتوجهوا إلى مصر فى جنح الليل.
- وبينما كان جنود هيرودوس ينقضون على «بيت لحم» ينزعون الرضع من صدور الأمهات الحانية وسط البكاء والعويل، كان الموكب الصغير المبارك المكون من مريم والمسيح ويوسف النجار مع حمار لهم قد غادر المدن ودخل الصحراء الشاسعة ما بين فلسطين ومصر، وواصلوا مسيرهم حتى وصلوا أرض سيناء الحبيبة فشاهدوا مسيرة الأنبياء التى ذكرتها التوراة رأى العين.
- استمروا فى سيرهم تشرق عليهم الشمس وتغرب حتى قاربوا على دخول مصر، تذكروا كلمة يوسف لأسرته «ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ»، فما أجمل الأمان بعد الخوف، والطمأنينة بعد القلق.
- عندما دخلوا مصر آمنين رأوا الخضرة تملأ الأفق، والشمس الصافية، نظر يوسف النجار ومريم إلى نهر النيل العظيم نظرة محبة وود وكأنهم يعرفونه منذ زمن، وكيف لا وقد قرأوا فى التوراة أنه حمل موسى عليه السلام أعظم رسل بنى إسرائيل وهو رضيع وحماه من موت محقق وكان له مهداً.
- مرت رحلتهم عبر طريق العريش مروراً بتل بسطا ثم بلبيس ثم سمنود ومرت ببعض قرى الغربية ثم تحركت إلى وادى النطرون ومنها إلى المطرية وعين شمس ثم مصر القديمة فالزيتون التى استراحت فيها بعض الوقت ثم اتجهت إلى المعادى ثم مغاغة ثم البهنسا وسمالوط ثم الأشمونين بالمنيا ثم إلى ديروط الشريف ومير فالقوصية ثم إلى موقع الدير المحرق بالقوصية.
- هذه الرحلة الطويلة من فلسطين إلى جنوب مصر ترى كيف تحملتها هذه الأسرة الصغيرة وهذا الطفل المبارك وليس معهم أى دابة سوى حمارهم.
- فى كل مكان كانت تظهر معجزات للطفل العظيم والنبى الكريم فيقبل الناس عليهم ويتبركون بمكثهم بينهم، وهذا كله هو الذى سرى عنهم ألم الفراق وعذاب الغربة.
- كان يوسف يقوم بعمله كنجار وكانت مريم تعمل بالحقول ليكسبوا من عمل أيديهم، فلم يتاجروا بدينهم أو يقبلوا صدقة من أحد، ولم يتقاضوا أموالاً نظير شفاء من شفاهم الطفل المبارك، حتى إن الطفل المبارك دل أهل بيت على مال سرق منهم فلما أعادوه قالوا لمريم: خذى نصف المال؟ قالت: لا.. إننى لم أخلق لهذا.
- مرت سنوات وسنوات والمسيح وأمه ويوسف النجار فى مصر بين روعة حقولها ونيلها وطيب أهلها وكرمهم وعطفهم عليهم.
- جاء المسيح إلى مصر وعمره عامان وغادرها وقد بلغ 12 عاماً عائداً مع أمه إلى فلسطين وبيت لحم، بعد أن سمعوا بموت الملك الطاغية هيرودوس، انتهت الرحلة المباركة ولكن لم تنته آثارها التى بدأت بتدمير كل الأوثان فى مصر بمجرد دخول الطفل المبارك إليها، وانتهت بنشر عبودية الله وحده، وإعادة سنن الأنبياء الكرام الذين شرفوا مصر وعلى رأسهم إبراهيم ويعقوب ويوسف وموسى وهارون ومن قبلهم إدريس، أول الموحدين على شاطئ النيل، فسلام على الأنبياء أجمعين.