تصعيد السعودية للضغوط المتعلقة بـ«تيران وصنافير» تجاوز الحدود، على نحو لم يترك موضعاً للسجال، بين من روجوا لسعوديتهما، ومن يؤمنون بمصريتهما، وانتقل بالجميع إلى مربع أضحت فيه «الجزيرتان» أياً كانت هويتهما قضية أمن قومى.. السعودية تعبث بالفناء الخلفى لأمننا القومى.. تبنى قواعد عسكرية متعددة المهام، فى «عصب» بإريتريا، وفى جيبوتى.. تحالفت مع السودان، وهى تدرك انعكاسات الأزمة على «حلايب وشلاتين».. أوفدت ممثل شركة الكهرباء بصحبة الوفد الرسمى لإثيوبيا، ليبحث مع سمنج بقلى، مدير سد النهضة، التعاون فى مجال الكهرباء، وتدعم استثماراتها التى بلغت 294 مشروعاً، تتجاوز 3 مليارات دولار.. المملكة اعترفت بأن قدراتها العسكرية لم تحتمل يوماً مسئولية الدفاع عن «الجزيرتين»، ثم أحبطت المشروع المصرى لإنشاء قوة عربية موحدة مارس 2015.. طالبت بهما بدعوى امتلاك المقدرة، ودعت تيريزا ماى، رئيسة وزراء بريطانيا، لقمة التعاون، لتعلن عودتها لحماية الخليج، وإنشاء قواعد عسكرية بكل دوله، يتمركز بها 30.000 جندى، بتكلفة 100 مليار دولار!! قرب «الجزيرتين» لسواحلنا لخمسة كم فقط، وتحكمهما بمدخل خليج العقبة يجعلهما هدفاً لبريطانيا، وللطامعين!! السعودية أعادت الإخوان لحكم اليمن، واستقبلت قيادات التنظيم الدولى، لإدماج فروعه ضمن تحالف سنى إقليمى، قبل توسطها لهم لدى مصر، متجاهلة سعيهم لإسقاط الدولة.. وجمدت الاتفاق التجارى لتوريد 700 ألف طن نفط شهرياً لمدة 5 سنوات بقيمة 23 مليار دولار، كبداية للضغط الاقتصادى!!
الدفاع عن حق الحكومة المطلق فى عقد اتفاق «الجزيرتين»، مردود عليه، حتى بافتراض تجاوز أسانيد ملكية مصر لهما؛ م١٥١ من الدستور نصت على عدم جواز إبرام أى اتفاقات تتعلق بالتنازل عن أرض تابعة للدولة، ولم تقتصر على المملوكة لها، مصر تحوزهما حيازة مستقرة هادئة، تمارس عليهما كل مظاهر السيادة، من الحماية، والحفاظ على البيئة، حتى السيطرة العسكرية والأمنية، وأدرجتا ضمن المنطقة «ج» بسيناء، بالبروتوكول العسكرى لمعاهدة كامب ديفيد 1979، لم تبد السعودية منذ نشأتها أى منازعة أو اعتراض، لم تتقدم بشكوى لعصبة الأمم أو للأمم المتحدة، حتى إن محامى قضايا الدولة بإحدى الجلسات قدم -بالخطأ- خريطة تعود لعام 1928 تثبت مصريتهما، قبل مطالبته بشطبها من حافظة المستندات!! م151 أناطت برئيس الجمهورية سلطة إبرام المعاهدات والاتفاقات الدولية، لكن سيادته لم يوقع، ولم يفوض الحكومة، لكنها وقعت أبريل 2016، ما أسقط الحصانة الممنوحة للاتفاق كعمل من أعمال السيادة، وتحول بالطعن لـ«منازعة تنفيذ» تخضع لاختصاصات مجلس الدولة الرقابية، لا غيره، وفق م190 من الدستور، والمواد 50، 52، 54 من قانون المجلس.
حكم القضاء الإدارى ببطلان الاتفاق «يوليو»، ساواه بالعدم، تقدمت الحكومة بطلب للإدارية لوقف تنفيذه لكنها رفضت وغرمتها 800 جنيه «نوفمبر»!! فاستندت لحكم الأمور المستعجلة، رغم أن اختصاصها الولائى ينعدم فى المنازعات التى تدخل فى ولاية القضاء الإدارى أو الدستورى.. الحكومة أقرت الاتفاق 29 ديسمبر، وأحالته للبرلمان قبل موعد الحكم النهائى للإدارية العليا بـ18 يوماً!! ما طرح التساؤلات عما إذا كانت تستبق الحكم بعد صدور توصية مفوضى مجلس الدولة بتأييد حكم البطلان، أم أنها خضعت لضغوط سعودية جديدة خلال مباحثات الوفود السرية المتبادلة مؤخراً!! الحكومة عمقت النزاع بينها وبين القضاء الإدارى بسوء اختيار توقيت كشف قضية «الرشوة الكبرى»، ما يفسر إجماع أعضاء مجلس الدولة على وصف أحد المتهمين بالرشوة بـ«الشهيد».. ووسعت نطاقه بمواجهة كل الهيئات القضائية بتبنى بعض النواب مشروع قانون يختار الرئيس بمقتضاه رؤساء الهيئات القضائية، مما قد يعنى حرمان الدكرورى، الذى أصدر الحكم، من رئاسة المجلس، رغم أنه الأقدم.. الحكومة أوقعت السلطتين التشريعية والقضائية فى تنازع للاختصاص يفجر الصراع ويمس احترام الشعب للأحكام والقرارات، رغم أن دور المحكمة سابق على رقابة البرلمان، لأن النواب يجب أن يتداولوا اتفاقات تتوافق مع الدستور.
رئيس البرلمان أفصح عن توجهاته بالطعن على الاتفاق، ما أفقده صفة الحياد، رغم ذلك ما زال يُعمل شئونه فى كل ما يتعلق بالموضوع، دون أى استشعار للحرج؟! التعجل فى تداول الموضوع طرح المخاوف من احتمال التصويت على الاتفاق دون تدقيق، وبما قد يتناقض والحكم القضائى البات، المنتظر صدوره 16 الحالى، ما يشعل الصراع بين السلطتين التشريعية والقضائية، وهو ما يبرر إرجاء المناقشات.. لجوء السعودية للتحكيم الدولى يستخدم كأداة ترهيب، رغم أن رفض البرلمان للاتفاق لا يعطيها المبرر لذلك، بل يُشترط إما امتلاكها لاتفاق يقضى بتسليم الجزيرتين لمصر، ويتضمن شرط إعادتهما بعد فترة زمنية محددة، وأن ينص داخله على التحكيم فى حالة النزاع، أو أن يتوافق الطرفان على ذلك ويوفدان ممثليهما للمحكمة الدولية لعرض موقفيهما، الشرط الأول غير متوفر، أما الثانى فينبه الحكومة إلى أن تحمسها للاتفاق بقدر ما يثير التساؤلات والريبة، فإنه يطرح المخاوف حال توافقها مع المملكة عليه، من أن يجد المصريون ممثليهم وقد انبروا دفاعاً عن سعودية «الجزيرتين»، فى مشهدٍ مخزٍ، يقتحمون به موسوعة جينيز للخيانة من أوسع أبوابها.
أحد مراهنات الحكومة يرتكز على منازعتى التنفيذ المرفوعتين أمام الدستورية العليا، التى تأجلت لجلسة 12 فبراير المقبل، آملة صدور قرارها باعتبار الاتفاق من أعمال السيادة التى لا يتوجب النظر فيها أمام القضاء المحلى، وبالتالى إلزام الإدارية العليا بالتوقف عن السير فى القضية، وهو ما نستبعده لاعتبارات موضوعية.. تأجيل البرلمان نظر الاتفاقية لما بعد صدور حكم الإدارية العليا، يعتبر أحد المخارج المؤقتة الرزينة للأزمة، وهو الحل الذى لا ترتاح له الحكومة، لخشيتها من تأثير نتيجة الحكم على مبدأ العرض على المجلس، واتجاهات النواب.. طرح الاتفاق فى استفتاء شعبى أحد البدائل، رغم أنه مكلف، إلا أنه يتسق مع الرغبة فى تجاوز الجدل المتعلق بملكية الجزر، والاعتداد بالحيازة المستقرة الهادئة وممارسة مظاهر السيادة ما يفرض الرجوع للشعب وفقاً للمادة 151 من الدستور.. المخرج السياسى يغلب المصالح المشتركة للدولتين، بمفهومها الاستراتيجى الرصين، بالتوافق على تفويض سلطة إدارة صنافير للسعودية، بحكم قربها لـ7 كيلومترات من ساحلها، دون المساس بوضع جزيرة وممر تيران، الملاصقين لساحل سيناء، على أن تخضع الجزيرتان لمشروعات تنموية مشتركة تعود بالنفع على الجانبين.
الاستقصاء الذى أجراه مركز بصيرة أوضح أن 30% ضد الاتفاقية، و24% معها، والباقى لم يقرر، ما يعنى أن المجتمع منقسم بشأن قضية رأى عام، تحولت من سبب لأزمة مع الحليف السعودى، إلى أزمة داخلية، وتحدٍ جديد لأمننا القومى.. فهل تتراجع الحكومة وتعبئ لاستعادة التضامن الوطنى؟!