تصلح منظومة «وكأن» لبعض الوقت، لكن أن تسود طول الوقت، فهذا هو الانتحار بعينه، وحيث إن المنظومة قد تمكنت من التفاصيل العريضة والدقيقة فى حياتنا على مر نحو أربعة عقود مضت، فإن وقت المكاشفة قد حان قبل زمن، ويمكن اعتبار الشارع بما يحويه من مهازل لا تتوقف على مدار الساعة نموذجاً صريحاً لمنظومة «وكأن» الجاثمة على صدورنا والمتمكنة من رقابنا، الفوضى العارمة للمركبات بأنواعها من ملاكى وأجرة وسياحة وغيرها، التى ينأى أصحابها وسائقوها بأنفسهم عن وضع لوحة الأرقام المعدنية، أو يطمسون حرفاً أو رقماً عامدين متعمدين تلقى أحياناً لجنة مرورية هنا أو توقيفاً أمنياً هناك، لكن واقع الحال يشير إلى أن هذه اللقاءات نادرة وشحيحة، وذلك بالنظر إلى كثرة اللوحات الغائبة وشجاعة السائقين الفائقة فى الطيران بها على الطرق السريعة والعادية والكبارى والميادين دون أن تهتز لهم شعرة قلق، والحقيقة أن مشهد مثل هذه السيارات الكثيرة لم يعد مدعاة للقلق أو دافعاً للتعجب من سكون إدارة المرور، ليس هذا فقط، بل إن العين لتدمع والقلب ليحزن على أولئك الضباط والأمناء الذين يظهرون أحياناً فى لجان مرورية للتفتيش على رخص القيادة وتحرير المخالفات، حيث رخصة منتهية هنا أو رقم مطموس هناك أو ما شابه، وبينما السيارات متراصة انتظاراً لعين الأمين الفاحصة الماحصة للمخالفات (وأشياء أخرى)، يركض التوك توك غير المرخص أصلاً دون أن يستوقفه أحدهم سائلاً إياه «ثلث الثلاثة كام؟!» فالتوك توك مميز مفضل، حيث لا مجال لمعاقبته على كسر إشارة، أو سير عكس اتجاه، أو حتى صدم مواطن أو سرقة مقتنيات، فكيف تحاسبه؟ أتسحب رخصته وهو غير المرخص أصلاً؟ أتحرر مخالفة له وهو غير مقيد أصلاً فى سجلات رسمية؟ التوك توك والعدم سواء، وبسؤال حضرة الأمين المنهمك فى تحرير المخالفات المرورية للسيارات الواقفة صفاً ثانياً عما ينبغى عمله حين اصطدم توك توك بسيارة أحدهم، يقول دون أن يرفع عينيه «يبلغ النجدة»! النجدة الوحيدة المتاحة لنا هى أن نكاشف أنفسنا بأنه بينما نعتقد أن لدينا قوانين مرور وقواعد أمان وسبل عقاب، يشير واقع الحال إلى أننا خاوو الوفاض، وقد طفح الكيل وفاض بمواطنين ظنوا أنهم هاربون من فوضى القاهرة الهدامة وعشوائيتها المروجة لنفسها باعتبارها حداثة وحرية وانطلاقة، ووضعوا تحويشة العمر فى شقة صغيرة أو فيلا كبيرة فى إحدى المدن العمرانية على أطراف القاهرة، فروا من فوضى عارمة ترعاها منظومة مرورية ترفع شعار «وكأن» عندنا قواعد مرورية وقوانين عقابية إلى فوضى وليدة لكن أكيدة، مدينة مثل الشروق الهادئة الجميلة سابقاً تصارع الزمن لتلحق بمدينة نصر الغارقة فى فوضى الحداثة وهرج سطوة العضلات على صوت القانون ومرج القبح والعشوائية رغم أنف التخطيط والانتقائية، ولأن ابتكار «رجال المرور» لم ينم إلى مسامع المدينة بعد، فقد تحولت فى أغلب مناطقها إلى صور مصغرة من عشوائيات مدينة نصر ذات المظهر الحداثى، وعلى الرغم من الوجود الموسمى (الذى تدور رحاه فى أعقاب كل جريمة قتل أو حادث اغتصاب) لدوريات ثابتة فى أماكن شحيحة، إلا أن الوجود المرورى فى داخل المدينة الكبيرة منعدم، ولأن من أمن العقاب من مخالفات ورقابة ومراقبة سرعة أساء أدب المرور وقواعده، وسار عكس الاتجاه، وأوقف سيارته أينما أراد، واعتبر نفسه فى حلبة سباق إن رغب فى ذلك، فقد تحولت الغالبية المطلقة من المدينة (باستثناء بعض الكومباوندز وليس كلها) إلى مواقف عشوائية (على سبيل المثال لا الحصر أمام أكاديمية الشروق والجامعة البريطانية)، وبلطجة وفرض سطوة دون وجه حق (حيث انتشرت آفة السياس والمتسولين)، وفيروس التخلص من مخلفات البناء فى الأراضى الفضاء التى تحول بعضها تلالاً صناعية وجبالاً شاهقة، والقائمة طويلة جداً، وللعلم فإن «مناشدة» السادة المواطنين الالتزام، أو التودد لهم عبر إعلانات لا تسمن أو تغنى من جوع عن حلاوة الأخلاق وطراوة السلوكيات ومراعاة الآخرين أثناء قيادة السيارات وأن القيادة فن وذوق وأخلاق لا تعنى لهم شيئاً على الإطلاق، ولن تعنى شيئاً إلا لو صاحبتها حملات توعية حقيقية ومستمرة، وتعريف بالمقصود من القيادة المعروفة فى دول العالم وليس فى مصر، تزامناً وتطبيق القانون بحذافيره على الجميع، ولو ضحكنا على أنفسنا وأقنعنا أنفسنا أن «أسبوع الانضباط» يعنى أكثر من ترويج إعلامى أو تزيين إعلامى، فسنكون بذلك مساهمين فاعلين فى مزيد من الإغراق لمنظومة «وكأن لدينا انضباطاً»، وعلى هامش المرور المنفلت تماماً وقواعده الغائبة تماماً وتطبيق قانونه غير المطبق إطلاقاً، نداء واستغاثة من سكان الشروق منطقة الـ70 متراً، هؤلاء تشكيلة غير متناغمة من المواطنين المصريين، بعضهم شباب من الخريجين الجدد والمتزوجين حديثاً الذين دفعوا تحويشة العمر فى شقة صغيرة يبدأون بها حياة جديدة فى منطقة هادئة، لكن فوجئوا بأن الكثير من الشقق المجاورة يتم تأجيرها لعمال بناء ومعمار مقبلين من قرى ومحافظات عدة للعمل فى حركة البناء الدائرة فى المدينة، لكن للأسف بعضهم ينخرط فى معارك بالأسلحة بأنواعها، وهى المعارك التى لا تجدى معها استغاثة بشرطة. السكان الأصليون يقولون إن الاتصال بالشرطة فى مثل هذه الأوقات المروعة تسفر عنه إجابة واحدة «طالما لا يوجد قتلى أو مصابون فلا دور لنا»! وكأن لديهم حق طلب الغوث.