الفرضية الرئيسية هنا هى محدودية كفاءة السياسة وانعدام قدرة الأحزاب فى مرحلة الاضطراب والاستقطاب الراهنة على الاضطلاع بمهام وطنية كبرى لن تتقدم مصر دون إنجازها، ومن ثم ضرورة البحث عن قوى مجتمعية تستطيع أن توظف طاقاتها ومواردها بكفاءة للشروع فى تنفيذ المهام الوطنية هذه إلى أن تستفيق السياسة.
المهمة الأولى هى تطوير رؤية واقعية لإصلاح وتحديث نظم التعليم المدرسية والفنية والجامعية لكى تتواكب مع تحولات سوق العمل وتحديات التنمية والتقدم ومقتضيات ثورات العلم والتكنولوجيا المستمرة.
يستطيع القطاع الخاص الوطنى متحالفاً مع خبراء وعلماء من مصر ومن خارجها العمل على تطوير هذه الرؤية وتنفيذها جزئياً وفقاً لتوفر الطاقات والموارد وبهدف صناعة تجارب نجاح لإصلاح وتحديث التعليم، للسياسة -حين تستفيق- الإفادة منها.
المهمة الثانية هى تطوير منظومة التأمين والرعاية الصحية لمحدودى الدخل من المصريات والمصريين بحيث يرفع عن كاهلهم العبء المالى وترتفع جودة الخدمات الصحية المقدمة لهم.
كارثة إنسانية ومجتمعية أن لا تجد الأسر الفقيرة ومحدودة الدخل قوت يومها، ومأساة محققة أن لا تقدر على العلاج حين المرض والعجز. يستطيع القطاع الخاص الوطنى متحالفاً مع الجمعيات الخيرية والأهلية والنقابات المهنية والعمالية وشخصيات عامة مهتمة بالتنمية المجتمعية صياغة برامج للتأمين وللرعاية الصحية للأسر محدودة الدخل وتنفيذها عبر آلية التمويل غير الحكومى من مصادر داخلية وخارجية. ولدينا فى مصر، ومن بين نماذج أخرى، نموذج رائع ومنير هو مركز القلب فى أسوان الذى أسسه الدكتور مجدى يعقوب وزملاء له بجهود ذاتية وبتمويل خاص. وأعكف حالياً مع زملاء وأصدقاء على التفكير المنظم فى صياغة رؤية متكاملة لتطبيق نموذج مركز القلب الأسوانى فى مناطق أخرى وفى قطاعات صحية متنوعة.
المهمة الثالثة هى إعداد كوادر قادرة على ممارسة السياسة والخدمة العامة بكفاءة وشفافية وديمقراطية بحيث تتخلص السياسة وكذلك الأحزاب تدريجياً من محدودية الكفاءة التى تعانى منها اليوم ومن غياب الخيال الإيجابى اللازم لدفع مصر إلى مسارات تنمية وتقدم.
فى بدايات القرن التاسع عشر حاول محمد على تحقيق ذلك، ومن بين أهداف أخرى، عبر سياسة الابتعاث إلى الخارج. وتكررت المحاولة، وإن على نطاق أضيق، مع الخديو إسماعيل، وفى القرن العشرين مع جمال عبدالناصر عبر البعثات الخارجية وبناء تنظيمات طليعية فى الداخل. ثم تخلت الدولة عن مهمة إعداد الكوادر، ولم تعد إليها إلى يومنا هذا.
مجدداً، يستطيع القطاع الخاص ممثلاً فى مؤسسات ذات أهداف تعليمية وبحثية كالجامعة الأمريكية فى القاهرة والجامعة الألمانية ومؤسسات مانحة (القلعة وساويرس وغيرهما) تطوير برنامج وطنى لإعداد الكوادر السياسية وكوادر الخدمة العامة فى معاهد تعليم عالٍ متخصصة، ولهم الإفادة هنا من تجارب عالمية متنوعة من فرنسا إلى كوريا الجنوبية وماليزيا والهند. هذه مهام وطنية كبرى بدونها لا تنمية ولا تقدم، ومن ثم لا تحول ديمقراطى ولا عدالة اجتماعية.
هذه مهام وطنية لا ينبغى أن نؤجلها إلى أن تستفيق السياسة المأزومة وصانعة الأزمة فى مصر. أملى أن يشرع القطاع الخاص الوطنى فى الاهتمام بها ومعه مجموعات من الخبراء والعلماء والفنيين والقادرين على الخدمة المجتمعية بعيداً عن استقطاب السياسة وزواريب الأحزاب.