توقفت طويلاً أمام حوار «محمد عشماوى»، المدير التنفيذى لصندوق «تحيا مصر»، لجريدة «الوطن»، وأنا أسأل نفسى: هل يجوز لمصر أن تعيش على «التبرعات»؟
وهل مشكلة «الفقر» نتيجة لتخاذل كبار رجال الأعمال عن التبرع للصندوق، أم نتيجة مباشرة لتخبط سياسات الحكومة وانحيازها الأعمى لرجال الأعمال، مما ضاعف من حدة الأزمة؟
الرئيس «عبدالفتاح السيسى» طلب من رجال الأعمال، قبل انتخابه رئيساً للبلاد، التبرع لمصر بمائة مليار جنيه، بعد كل ما حققوه من ثروات من الاستثمار فى مصر.. لكن طبقاً لتصريحات «عشماوى»: (لم يدخل الصندوق منذ التأسيس سوى 7.5 مليار فقط.. وكان أكبر عدد من المتبرعين من الطبقة المتوسطة)!
هنا لا بد أن تسأل: لماذا يتجبر رجال الأعمال على نظام 30 يونيو الذى حررهم من «فاشية الإخوان»، بعدما خضع لها البعض إما خوفاً من «الميليشيات المسلحة»، أو طمعاً فى ذهب «مكتب الإرشاد»؟!
ومن هو «العبقرى» الذى حول رجال الأعمال إلى «لوبى ضاغط» على الحكومة، يتعامل بكل جحود مع البلد الذى صنعه؟
هل هو تأثير دعمهم للنظام بتأسيس وشراء القنوات الفضائية، أم بحكم تمويلهم السخى لبعض أحزاب «الموالاة» الممثلة بقوة داخل «مجلس النواب»، أم أنهم «الأقرب» إلى قلب الرئيس.. أم كل هذه الخيوط معقدة ومتشابكة، بحيث يستحيل فك عقدتها، خاصة إذا أضيف إليها قروض رجال الأعمال من قطاع البنوك؟
كان من المنطقى أن تتخذ الحكومة قرارات متزامنة مع تحرير سعر الصرف، تطبيقاً لاتفاقية «الجات» من جهة وتفعيلاً لمنظومة الاقتصاد الحر، أولها رفع «الحماية الجمركية» عن عدد من المنتجات فى مقدمتها صناعة السيارات، (والتى تعتمد على تجميع قطع السيارات فى مصر)، لتشهد الأسواق المصرية التوازن المطلوب بين سعر الجنيه وأسعار السلع، وتعالج التضخم الركودى الذى ساد مع الغلاء.. لكن الحكومة اكتفت بتحقيق شروط «صندوق النقد الدولى»، دون تفعيل حقيقى لآليات السوق.
حكومتنا الرشيدة أبقت الحال كما هو عليه: ديناصورات تتوحش، وتلتهم المواطن بأكمله، وسخط شعبى يتزايد، وبسطاء هم القاعدة الشعبية الحقيقية للرئيس يرددون بفخر: (مصر هتبقى قد الدنيا).. ثم يتنبهون على صوت «السيسى» يذكرهم: (إحنا فقرا أوى)!
فشلت الحكومة فى ضبط الأسعار، وتراجعت أمام أصحاب «مزارع الدواجن» مما أغرى «الرؤوس الكبيرة» بمزيد من التجاهل لصندوق «تحيا مصر»، ربما لأنهم يتبرعون بقيمة الإعلان عنه فى فضائياتهم.. وهكذا عدنا أسوأ مما كنا أيام «مبارك» وقت أن كانت الحكومة تشكل من «أمانة السياسات».. وكان «جيمى» هو العضو المنتدب لإدارة اقتصاد البلد.
لو تم رفع الجمارك لأصبحت مصر مثل أى دولة تتوافر بها كل السلع بالسعر المناسب لدخل الفرد، لكن بالعند فى المواطن تضاعفت الجمارك على بعض الواردات لحماية مثيلتها المصرية.. فكيف تصف الحكومة اقتصادنا: هل تسير مصر عرجاء على ساق «اشتراكية» وساق «ليبرالية»؟!
هل الحكومة، التى تسلخ جلد المواطن الغلبان وتحصل منه على الضرائب «من المنبع»، عاجزة عن فرض «الضريبة التصاعدية» على المستثمرين والشركات.. لتحقيق مساحة ما من «العدالة»؟
الحجة الجاهزة لدى الحكومة أن زيادة الضرائب أداة طرد للاستثمار، وأن الاقتصاد الحر لا بد أن يخفف القيود على المستثمر، وحماية المنتج المحلى ضرورة لتخفيض كلفة الاستيراد من العملة الصعبة. فى قلب هذه المعادلة الصعبة كان يفترض أن تجلب خطوات «الإصلاح الاقتصادى» استثمارات أجنبية، وتحقق المزيد من التنمية وفرص العمل، لكن هذا تحقق على المستوى «النظرى» فقط، وتحدثت بعض التقارير الدولية عن تحسن الاقتصاد المصرى، ومنها اختيار مجموعة «سيتى بنك»، لمصر ضمن 5 أسواق ناشئة يرى المستثمرون أنهم متحمسون لضخ الاستثمارات فيها خلال 2017. أما على أرض الواقع، فستجد الحرب المفتوحة على الإرهاب فى «سيناء» تغتال أحلام زيادة معدلات السياحة الوافدة، أو جلب استثمارات أجنبية خاصة مع وجود «بيروقراطية بليدة»، تلغى أوهام «الشباك الواحد» للاستثمار لتسهيل الإجراءات أمام المستثمر.. علاوة على فريق من «السادة المرتشين» يعشش فى أروقة الدولة.. وكأنها منظومة متكاملة من تراخى الحكومة وتغول المستثمرين والفاسدين. إذن، ليس أمامك إلا «شلة رجال الأعمال» القديمة-الجديدة، بنفس أطماعها، التى لا تعترف بـ«الدور الاجتماعى» لرأس المال، وتنظر إلى الشعب بصفته «عمالة» يجب سن القوانين لذبحها وقتما يشاء المستثمر. قد يحاول البعض تصوير انتقاد رجال الأعمال بأنه «حقد طبقى»، أو تطبيل لمطلب رئاسى، وتصنيف «التبرع» بأنه نوع من «التسول».. فقط لأنهم اعتادوا -من قبل- دخول «أمانة السياسات» أو لهف «الحصانة بالتعيين» فى عهد «مبارك»، بالتبرع لمشروعات «سوزان هانم»، والتى كانت تخصم فى النهاية من أرباحهم التجارية.. وهناك من يسعى -الآن- للحصول على نفس الحظوة مقابل التبرع لصندوق «تحيا مصر»!
لقد أثبتت «سياسة التبرعات» فشلها أيضاً، فهل تتحرك الحكومة بمبدأ: (أخذ الحق حرفة)؟