فى كتاب نحتاجه جميعاً لكى يضىء لنا كثيراً مما يثيره البعض من خلافات إما مفتعلة أو وليدة جهل أو جهالة، قدم لنا د.محمود حمدى زقزوق وبإتقان علمى وتدقيق فقهى الحدود الفاصلة بين الفهم الإسلامى الصحيح وبين التأسلم الذى يجافى روح الإسلام. والكتاب «تأملات فى أزمة الفكر الإسلامى المعاصر- نظرة نقدية» أبدعه د.زقزوق فى مطلع العام 2017 وكأنه يهديه لنا بمناسبته. وفيه يقدم د.زقزوق كما أورد فى مقدمته إضافات جديدة منها «أزمة النقد فى فكرنا المعاصر» وتحدث طويلاً عن التنوير وعناوين عدة منها «الحق لا يضاد الحق»، و«التراث بين التجديد والتبديد»، و«تجديد الفكر الدينى» وغيرها من عناوين تغرى بالقراءة والتأمل. والدكتور زقزوق يستخدم منذ البداية ما عودنا عليه من شجاعة فى قول ما يعتقد أنه حق وأيضاً حكمة فى تناول الموضوعات حتى الشائع منها، ونقرأ: إن هدفنا منذ البداية هو الإسهام فى تحريك المياه الراكدة فى مستنقع صنعه بعض «الأصدقاء الجهال» (بتعبير ابن رشد) الذين حنطوا الفكر الإسلامى القديم وصنعوا منه صنماً يقدسونه، فإننا نرجو فيه ما يشفى صدور المهتمين بتجديد الفكر الإسلامى. ثم هو يتمنى على شباب الباحثين استكمال البحث و«الوصول بسفينة الفكر الإسلامى إلى بر الأمان بخطى ثابتة لدفع عجلة التجديد للأمام وإزالة ما تراكم على صفحة الفكر الإسلامى من غبار كثيف صنعه الجهل والجمود على مدى قرون عديدة»، ويتمنى أن يكون «فى هذا الكتاب فائدة لقارئ أو نفع لباحث أو تنبيه لغافل»، وهو وكما سنرى معاً قادر على أن يحقق ذلك. وبعد هذه المقدمة المختصرة يمتعنا بست مقدمات. والمقدمة الأولى تستهدف تحديد المعنى الدقيق لكلمة «الفكر» وبعد أن يستعرض تعريفات عدة تقتادنا إلى أن الهدف الأسمى للفكر هو التفكير العلمى كما يقول «إن الفكرة قوة تبعث فكرات أخرى وتدفع إلى العمل»، ثم يختتم «إن الفكر الإنسانى فكر متجدد ومتطور كالنهر الجارى، والفكر هو الذى يقتاد قاطرة التجديد والتغيير فى كل أمة. والفكر السليم من شأنه أن يكون رائداً للتقدم وقائداً لمسيرة التحضر فى المجتمع.. فالتغيير سنة الحياة وقانون الوجود. ثم يحدثنا عن العقل الإنسانى باعتباره أداة التفكير: و«العقل هو الميزة الجوهرية للإنسان وهو مناط التكليف».. ثم يقول لا تأتى الإشارة إلى العقل فى القرآن الكريم إلا فى مقام التعظيم والتنبيه إلى وجوب العمل به والرجوع إليه، والإسلام عندما يخاطب العقل يخاطبه بكل ملكاته، أى «العقل الذى يعصم الضمير ويدرك الحقائق ويوازن بين الأضداد ويتأمل ويتعظ» ويقابله «الجمود والعنت والضلال» (ص12) وبهذا أطلق الإسلام سلطان العقل من كل ما يقيده وخلصه من كل تقليد يستعبده، وكان لموقف الإسلام من العقل الأثر العظيم فى صياغة الحضارة الإسلامية والعقلية الإسلامية». ثم يقول «وقد كانت دعوة القرآن لاستخدام الملكات الفكرية دعوة صريحة لا تقبل التأويل»، وهكذا يجعل الإسلام من التفكير وإعمال العقل واجباً مقرراً وفريضة إسلامية (ص13).
ويقول «وإذا كانت الوظائف العقلية واجباً دينياً فى الإسلام فهى مسئولية حتمية وسيحاسب الإنسان على مدى حسن أو إساءة استخدامه لها». ثم ينتقل بنا إلى الموقف من التراث فيقول «التراث الإنسانى نتاج للعقل الإنسانى وهو أخذ وعطاء يأخذ منه كل امرئ ما يشاء. وقد أشار الفيلسوف الكبير ابن رشد إلى أن النظر فى كتب القدماء واجب شرعاً، وقال «ننظر فى الذى قالوه وما كان منه غير موافق للحق نبهنا عليه وحذرنا منه وعذرناهم» (ص15)، فإذا كان الأمر كذلك فما هى حقيقة المشكلة؟ وعلى هذا السؤال يجيب المؤلف «يمكن القول بأن الفكر الإسلامى يعانى أزمة خانقة وتتجاذبه تيارات متناقضة، والمتأمل فى ذلك تستبد به الدهشة للحيرة والارتباك المسيطرين علينا فهناك تيارات تحاول أن تشد هذه المجتمعات إلى الوراء متعامية عن مستجدات العصر، وما طرأ على العالم من تطورات جوهرية، وهناك فى الوقت نفسه تيارات أخرى تحاول أن تجذبها من وهدتها بطريقة قد تفقدها توازنها وتقتلع معها جذورها وقد تفقدها هويتها.. ويبدو الأمر كما لو أنه خيار بين تيارين يمثلان إفراطاً فى جانب وتفريطاً فى آخر» (ص17).
ويمضى د. زقزوق قائلاً «ولا شك أن المظلوم فى هذا الصراع هو الإسلام ذاته، فهو الذى يدعى كل طرف أنه يريد إنقاذه والحفاظ عليه، وهكذا أصبحنا نحن المسلمين سبباً فى توقف العطاء الحضارى للإسلام، وأدى بنا ذلك إلى التوقف فى مفترق الطرق، وجعل خصوم الإسلام يصرون على أن التخلف الذى نعانى منه يرجع إلى الإسلام ذاته وإلى جمود تعاليمه كما يزعمون.. وهكذا يظل الإسلام يعانى من أتباعه ومن خصومه على السواء» (ص18). لكنه يعود ليحذرنا فينبه إلى أننا عندما نتحدث عن الفكر الإسلامى فإننا نعنى بذلك كل ما أنتجه العقل الإسلامى من إبداع فى جميع المجالات وليس فى مجال العلوم الدينية فقط وإنما هناك جهود علماء مسلمين فى جميع المجالات الدينية والفلسفية والعلمية والأدبية والفنية، وواضح أن هناك تخلفاً فى كل هذه المجالات. ثم يؤكد علينا ضرورة التفريق الحازم بين الإسلام ذاته وبين الفكر الإسلامى حتى لا يتصور أحد أن الإسلام «الدين» هو سبب تخلفنا الحضارى، وبرغم أن الفارق واضح تماماً فإن الخلط بينهما لا يزال قائماً بسوء نية أو حسن نية (ص21). ويؤكد د.زقزوق أن الإسلام لا يرضى لأتباعه هذا التخلف ولهذا فإن الإسلام قد جعل من طلب العلم فريضة، وأكد على دور العقل، ومن هنا فإنه يلزمنا بضرورة التخلص من التقليد الأعمى ومما أتى فى بعض كتب التراث من أوهام وخرافات. فالتجديد يعنى استخدام العقل، والاجتهاد كالتفكير فريضة وليس من حق أحد غلق باب الاجتهاد، والاجتهاد ليس فى قضايا الفقه فقط وإنما فى كل مجالات المعرفة والعلوم.
وبهذا يربط الدكتور زقزوق التفكير بالمعرفة بالعمل وإعمال العقل والتجديد والاجتهاد وهذا هو جوهر فكرة الكتاب.
ونواصل