«الوطن» تقتحم أوكار «الشحاتين» وتكشف أسرار عالمهم الخفى
أحد المتسولين يستعطف الناس فى الشارع
«هات جنيه عشان أركب بيه»، أو «هات جنيه عشان أفطر أنا وعيالى»، أو «هات أى حاجة ربنا يسترك».. جميعها عبارات تتردد يومياً على مسامعنا فى مختلف شوارع وميادين الإسكندرية، ويعتقد البعض أنها عشوائية وارتجالية، على الرغم من ترديدها فى مناسبات وأماكن عدة، وبطرق مختلفة على مدار الساعة، وبخاصة فى المناسبات الدينية، أو مع اقتراب شهر رمضان، حتى أصبح التسول عالماً متكاملاً، يتكون من مسئولين وعاملين، وتوزيع أدوار ومهام، إذ يبدأ العمل فى ساعات الظلام، التى ينام فيها الجميع، بكل جد واجتهاد، لتشملهم مع أذان الفجر خريطة دقيقة بمواقع التمركز، بداية من المتسولين مروراً بـ«النضورجية»، حتى «المعلمين»، وكبار «أصحاب الكار».
«محطة مصر» عاصمة التسول.. و«المندرة» فى موسم الصيف.. والمنظومة تبدأ بـ«الريس» ثم «المعلمين» و«الأسطوات» وصولاً لـ«النضورجية» و«الصبيان»
«الوطن» اقتحمت أوكار المتسولين، لترصد أهم أماكن تمركزهم، وأسرار عالمهم الخفى، حيث يتركز معظم المتسولين بالإسكندرية فى منطقة وسط المدينة، خاصة فى «محطة مصر»، التى تعد أحد أهم وأكبر منبع لهم، ومقر مجموعة من «المعلمين»، الذين يمسكون بكل خيوط المهنة، ويطلقون «صبيانهم» فى الشوارع، إذ يسيطرون على مجريات أعمالهم اليومية، ويجرون حركات تنقلات لأماكنهم، ورسم شخصياتهم كل فترة، للابتعاد عن الجمود والرتابة، ولضمان استمرار تدفق الأموال من خلالهم.
فى الحديقة العامة بميدان محطة مصر، المواجهة لمحطة القطار الرئيسية بالإسكندرية، يتمركز العشرات من المتسولين، يجتمعون يومياً مع مسئولى التوزيع فى الساعة السادسة من صباح كل يوم، وكل مجموعة مقسمة، ولديها مسئول عنها يطلق عليه اسم «الأسطى»، ويعمل معهم جنباً إلى جنب أشخاص يطلق عليهم اسم «نضورجية»، لمراقبتهم والتعامل مع المشكلات التى تقابلهم على الأرض، خاصة المشكلات الأمنية، ولكل متسول منهم دور يلعبه بالطريقة التى يحددها «الأسطى»، ولكل مجموعة من «الأسطوات» قائد، يطلق عليه اسم «المعلم»، وفى الأخير يجلس على قمة جبل المهنة عقل مدبر، يطلق عليه المعلمون اسم «الريس»، الذى يدير المنظومة، وككل الممالك الكبرى، يبرز دور للسيدة الأولى، وهى زوجة «الريس»، بالإضافة إلى ابنه، أو «ولى العهد»، الذى يدير أعماله بالنيابة عنه فى كثير من الأوقات، مستنداً إلى مجموعة من القوانين الصارمة، التى يلتزم بها «أبناء الكار» بكل دقة.
وعادةً ما تبدأ رحلة المتسولين اليومية من أماكن معيشتهم على أرصفة الشوارع الجانبية القريبة من محطة مصر، يستيقظون فى ساعة مبكرة من الساعات الأولى من صباح كل يوم، ويتوجهون على بعد أمتار إلى شخص تبدو عليه علامات الهيبة والسطوة، فملابسه «مهندمة»، وغالباً ما يمسك بيده أحدث أنواع الهواتف المحمولة، وأفخر أنواع السجائر، ليدير مجموعة العمل الخاصة به من المتسولين، ويبدأ فى توجيه النصائح اليومية إليهم، والتأكيد عليهم للالتزام بقواعد القانون الصارم الذى يحكم عمل المتسولين، ففى محطة مصر، التى تُعد مدرسة التعليم الأساسى للمهنة، يتربى الطفل ويتعلم أساليب التسول الحديثة والقديمة، ويتعلم فيها أولى القواعد، إذ لا يمكن لأى منهم التعدى على منطقة تقع تحت مسئولية مجموعة أخرى من زملائهم، ومع بداية ظهور الخيط الأول من النهار، يرتكن كل منهم إلى مكان عمله.
«عطية»، الشهير بـ«الأشول»، أحد المتسولين فى منطقة محطة مصر، يقف مرتدياً ملابس يملؤها الشحم، ويظهر على جلده بعض التقرحات، نتيجة عدم الاستحمام لفترات طويلة، شرح لـ«الوطن» طبيعة عمله بقوله: «من أول ما اتولدت فى الشارع، وأنا معرفش غير الشحاتة، بنتعب فيها زى أى شغل، وربنا بيكرمنا»، وتابع قائلاً: «احنا زى أى شغلانة، فيه مسئولين عننا، وكل مسئول فيه اللى أكبر منه، وفيه ناس بتحاول تكون بعيدة عن المنظومة، بس الأغلب مش بيعرفوا، وبيكونوا عبارة عن هواة فى الشغل»، مؤكداً أن «عالم التسول ده ليه الشرطة الخاصة بيه، وليه المخبرين، والناس اللى بتشتغل عشان العالم ده يفضل مستمر، واللى فاتح بيوت ناس كتير جداً، ومنهم اللى عايشين فى أحسن مستوى».
أما «كريم»، وشهرته «تاكو»، أحد المتسولين بمنطقة «العطارين»، فقال: «احنا بنعيش فى عالمنا الخاص، وعندنا المحكمة الخاصة بينا، واللى مش بترحم اللى بيطلع عن النظام، واللى بيتمسك بيشتغل بره المنطقة دى بيتعلم عليه على طول، ويا إما يكون واحد مننا، يا إما يمشى ويشوف له سكة تانية»، وأضاف: «الشحاتة مش مجرد ناس لبسها وحش وقاعدة، لينا طرق كتير، فيه عندنا الناس النضيفة، وفيه الأطفال، وفيه اللى بيقفوا فى الإشارات، وكمان فيه الستات اللى بتشحت بأطفال، وفيه اللى بيشحت على مرضه»، وتابع أن «أحدث أنواع الشحاتة هى شحاتة أصحاب الياقات البيضاء، كما يُطلق عليها، ودول ناس نضيفة، بتحاول تستعطف الناس».
وبينما تعد «محطة مصر» المنبع الرئيسى للتسول إلا أن هناك منابع أخرى، ولكنها تكون أقل فى عدد المتسولين، ومنها منطقة «المنشية»، وشوارع منطقة «محطة الرمل»، التى يجلس فيها عشرات المتسولين، كما توجد مناطق أخرى موسمية، حيث تعمل فى شهور الصيف أكثر من الشتاء، بداية من «محمد نجيب»، وحتى «المندرة»، التى تعد المصيف الشعبى، نظراً لأنها أكثر المناطق التى تستقبل مصطافين من مختلف محافظات الجمهورية، أما شارع «خالد بن الوليد»، فيُعد أهم الشوارع بتلك المناطق، نظراً لتمركز أكبر عدد من شقق المصايف به.
وقال «أحمد»، الشهير بـ«لايكا»، أحد المتسولين بمنطقة «محمد نجيب»، إن «الشحاتة هنا بتكون مواسم، وموسم الصيف بالنسبة لينا أهم من المواسم كلها، لأنه بيكون فيه ناس كتير جداً، ومعاهم فلوس، وشغلتنا مابيروحش عليها الزمن، ولا سوقها بينام»، وتابع بقوله: «الشحاتين موجودين فى كل مكان، وكل واحد بيقلب رزقة، واحنا مش هنلاقى شغل أفضل من كده، وأى شغل تانى هنتعب أضعاف التعب ده، ومش هناخد فى الآخر غير 40 جنيه فى اليوم، وده لو أخدناها».
أما «حسن»، الشهير بـ«فهد»، فقال: «احنا بنأجر العجل والأطراف الصناعية، عشان نقنع الناس بإننا فعلاً محتاجين، وهو فعلاً احنا محتاجين فلوس عشان نقدر نعيش»، مضيفاً بقوله: «اتولدت لقيت نفسى فى الشارع، وناس بتشحت بيّا، ومفيش تعليم ولا شغل ولا غيره، فلازم أقنع الناس بمظهر خارجى عشان يقتنعوا إنى فعلاً عاجز عن العمل، وعاجز عن الحياة بدون مساعدتهم، والفلوس اللى بكسبها من الشحاتة كلها بتضيع على البرشام والسجاير والأكل.. هى دى حياة كل متسول»، مشيراً إلى أن حرفة «الشحاتة» يستفيد منها كثيرون، «من أول محل العجل والأطراف الصناعية المركونة عنده، وبيكسب من ورا تأجيرها، لحد عندنا، والفلوس اللى بتطلع للمعلمين والأسطوات اللى مشغلينا، وغيرهم، وبيوت كتير مفتوحة بالفلوس دى»، بينما قال «حمو النمر»، أحد المتسولين، وأصيب بتشوهات فى إحدى ساقيه: «أنا عندى السكر، ورجلى باظت من المرض، ومفيش علاج ولا فيه شغل، بأجر كرسى عشان أمشى به، ده أنا محتاجه فعلاً، وفى نفس الوقت بيفيد فى الشغل»، على حد قوله.