قد تجد نفسك منساباً مع لحظات الخاطر، وكأن ذاتك المثقلة تستصرخك، وشيئاً من الغصة فى الحلق يوجعك ويدفعك نحو ثورة هى بحق ثروة لميلاد جديد، وقد عزمت بيقين ومثابرة لا تلين نحو الإياب الجميل فى واحات متجددة وواعدة، والخضوع لجلسة مواجهة ومكاشفة ودية هى أقرب للعتاب والبوح الصامت الراقى الأمين، وتأمل فى محطات العمر الممتد، بعد طول غياب بين سفر وضجيج بشر، لتدرك كم أنت حقاً أثقل من ذاتك.
أثقل من الذات.. حين تقترب خطاك من أعتاب الخمسين والستين، وتظنّ فى العمر متسعاً لما رسمته فى سؤدد شبابك وسياحة أحلامك من هضاب الطموحات وتلال الإنجازات، لتدرك ضيق حدودك الزمانية وإمكانياتك البدنية والذهنية وحواجز المجتمع ومنافى البشر، ورغم الطوفان الذى يفتعله مَن حول مَركِبك ليَحُولُوا دون إبحارك لوجهتك، فإنك تصرّ على التجديف غاضّاً الطرف عن ظنون وهمسات أنك تصنع مِن أنت أكبر مما أنت؛ حين لا تستمع بملء الوجدان والآذان قول من يعلم السر وأخفى: «لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا» [البقرة: 286]... آنذاك تدرك كم أنت حقاً أثقل من ذاتك.
أثقل من الذات.. حينما لا تتوقف المُقَل عن تتبع السطور وطىّ الصفحات والمؤلفات؛ حين ترتشف من ترياق الإيجابية والتفاؤل والعفوية والقيم الإنسانية المشتركة، فتحلم وترسم ما يطغى على الوجود، ويعلو على الإنسانية ويتجاوز حدودنا الكونية، وتراهن على الكامن فيك وفيمن حولك من رفقاء دربك المهنى والحياتى، بينما بعض أصحاب النفوس الواهية تضيق بأفكارك الحالمة الراقية، فليس فى قلوبهم مثقال ذرة مما يثقلك ويشغلك لسعادة الدارين.. آنذاك تدرك كم أنت حقاً أثقل من ذاتك.
أثقل من الذات.. حين يُغدق الله عليك من نعمه وتحيا سنوات فى مجتمعات متسامحة مترابطة، أرواحها متآلفة متواضعة، ونياتها متكاشفة وسواعدها متعاونة، تجول بين شواطئ العالم المعرفى، وقد أَسرَك البحث المستمر عن مواطن التميز والإبداع، ولا تبرح محراب التتلمذ بشغف ممتد، وشوق ليس له حد لتتعلم المزيد؛ إلا أن سراب الوهم يلوح لك حين تفكّر بالانتقال لمجتمعات أخرى استغرقتها الخصومة والتناحر واستوطنها التباغض والتحاسد والتداعى، وأرَّقها التخلّى عن الراحة والجدية والهمة والموضوعية فى البناء والتطوير والتعايش، فأسعدها التسويف وغرتها النرجسية، شحيحة فى العطاء والنماء، تواقة إلى الاكتناز بامتياز.. آنذاك تدرك كم أنت حقاً أثقل من ذاتك.
أثقل من الذات.. حين يتملكك تمكين الآخر، ولا تنفكُّ تَسعَدُ بمُضيّهم قُدُماً وارتقائهم ظافرين، ولا تملّ تُسجى عليهم من واحات خبرتك وتختصر لهم من عصارات تجربتك مسافات شاسعة اجتزتها بماء العين وشجون القلب؛ فلا يلقون لها بالاً، ويسلكون طريق العادة التى طالما جرّت عليهم خسراناً ووبالاً، وكلما لوّحت لهم عَلَّهُم ينتبهون لعلامات الخطر، أو تشاركت خيرية مستدامة معهم ليوم المقر، عَميت بصيرتهم وصُمّت آذانهم، وقالوا ما بالُ فلان يهذى..! أنفعا يستجدى..! أم جاهاً وسلطاناً ومالاً ومغَانم يَبغِى..! آنذاك تدرك كم أنت حقاً أثقل من ذاتك.
أثقل من الذات.. حين تأخذك الظنون أن سبيلك لحمل رسالتك فى رحلتك القصيرة الزائلة، أن ترخى حبال الشوق والوصال مع رفاق الدّرب، وتستنشق عبير ودّهم، حين تغلّفك أشغالك وضيق وقتك بِسِمَة الجمود وجفاف الروح والتيه، وتفقد قدرتك على التربيت على جراح من حولك؛ لتجدك وحيداً، فتلتحف بدفء مناجاة رب السماء والعيش فى ساحات الرضا والاكتفاء واليقين والاستغناء، والارتواء من سلسبيل سقياها حروف وصال مع الكريم المتعال، ونبضات قلب معلقة بتسابيح أولى الألباب، بعد اكتشاف كنز الوجود فى كتاب فصلت آياته، والسكن بقرب نفحات النبى العدنان...آنذاك تدرك أنك أُعتِقت من ثقل ذاتك، وولدت من جديد، وأن الأجمل لم يبدأ بعد، بشوق إلى الأبقى المستدام وليس العابر بلا دوام.