يمكن التقاط طرف خيط ما يحدث فى سوريا اليوم من وسط ركام محطة مترو سان بطرسبرج، وعبر اختبار بصمات الانتحارى منفذ عملية التفجير «أكبر جون جليلوف» القرقيزى الأصل والروسى الهوية، بالمنطق وبالمعلومات المتوافرة يمكن ذلك، بتتبع الخيط المشدود ما بين هذا الانتحارى الذى اخترق الأمن الروسى وبين مدينة أدلب السورية وريفها. فقد تأكد الأمن الروسى من تلك العلاقة الوثيقة ما بين «جليلوف» وما كان يحدث قبل تنفيذه للعملية بأيام، عندما كانت الطائرات الروسية بصحبة سلاح الجو السورى، تمطر ريف حماة الشمالى بقذائف موجهة لتدمير «مخازن صواريخ تاو» مهربة بمعرفة وحدة استخبارات عسكرية بأنقرة إلى بلدة «بابسقا» الحدودية ما بين تركيا وسوريا. هذه الضربة الثمينة لما تم تكديسه على مدار شهرين، كمخزون استراتيجى لأهم مضادات الدروع، التى ستستخدمها ميليشيات أنقرة لخوض معارك الشمال، عُدت هى العقدة الرئيسية الأولى فى الخيط المشار إليه.
ثمة روايتان فيما بعد تلك العقدة، الأولى روسية تبدأ فيما بعد تنفيذ هذه العملية، تتبنى أن هناك تكليفاً قد خرج من أدلب بمعرفة أنقرة إلى «جليلوف» لينفذ عملية تفجير وقت وجود بوتين فى سان بطرسبرج، لتمثل رسالة مضادة بالطبع ضد روسيا وموجهة للرئيس بوتين بشخصه، تنفس بها أنقرة عن حنقها البالغ من فشل هجمات ميليشياتها المسلحة بريف حماة، فضلاً عن «مجزرة صواريخ التاو». تمتد بعدها الرواية الروسية لتصل بالغضب التركى إلى أنه دفعها لتهريب مواد الأسلحة الكيماوية إلى أدلب، استعداداً لاستخدامها ضد القوات السورية أو قوات حماية الشعب الكردية مستقبلاً، وأن تلك المواد هى ما تم قصفه بطريق الخطأ من قبَل الطيران السورى، باعتبارها سلاحاً يخص الميليشيات من دون علمه بمحتواها.
الرواية الثانية يتبناها الواقفون على الجانب الآخر، وهم يتفقون مع كافة مقدمات الرواية الأولى وصولاً لمحطة سان بطرسبرج، وعندها يبدأ انحراف زاوية المعلومات لديهم، لتدخل من باب بوتين الغاضب الذى توعّد الإرهابيين برد قاس جداً غداة الهجوم الإرهابى، وبعدها عمم أمراً على كبار ضباطه ومعاونيه يقضى بعدم السماح بعودة أى إرهابى ذى أصول روسية من سوريا مهما كلف الأمر. وهذا استتبع رداً انتقامياً مزلزلاً من القيادات العسكرية الروسية الموجودة بسوريا، موجهاً ضد تركيا بأن أى محاولة للعبث على الأراضى الروسية سيقابلها رد يتجاوز حدود توقع أنقرة، وللتنظيمات بأدلب عليهم أن يروا الجحيم بأعينهم قبل التفكير بنقل المعركة للأراضى الروسية. بناء على ذلك تم دفع سلاح الجو السورى، صاحب السوابق فى تنفيذ عمليات من هذا النوع، بأن يقوم بغارة «خان شيخون»، فهو فى أى حال يثخن فى لحم مناطق وبلدات تناصب النظام العداء، ويستكمل تحطيمها بوتيرة أسرع مما تم الاتفاق عليه وقت السماح بخروجهم من حلب.
للقارئ حرية أن يتبنى إحدى الروايتين، وأظن الفروق بينهما ضئيلة قد لا تستدعى الوقوف عندها طويلاً، فالأحداث ذاتها لم ترهق نفسها بملل الانتظار، فقد كان هناك على الجانب الآخر من المحيط رئيس وإدارة أمريكية جديدة، لديها أجندة عمل مستقبلى تخدمها كثيراً حادثة من هذا النوع، لذلك سارعت بالتقاطها، قبل أن تقوم بصياغة ردة الفعل التى تتوافق مع هذه الأجندة. وربما تكون هناك بعض من الهوامش التى دارت بالقرب من المتن، قد تساعد القارئ الذى لم يشف غليله عدم الإمساك بخناق من ارتكب الجرم المشهود، أو على الأقل تشير إليه بطرف خفى أو ظاهر فكلاهما جائز، فعمق المأساة السورية التى تشبه المقذوفات المنضبة، أن جميع أطرافها قد نزل إلى المستنقع دون استثناء، منهم من فعلها مرة أو مرتين، ومنهم من تورط حتى أذنيه، وآخرون يعيشون فيه من دون أن تقلقهم الرائحة القاتلة.
الهامش الأول كان روسياً، بالإعلان عن تلقيها إخطاراً مسبقاً بالغارة الصاروخية الأمريكية من البنتاجون عبر الخط الساخن، لكنها اختارت أن تقيد عمل منظومات دفاعاتها الجوية ونظيرتها السورية، استناداً لتقدير أنها ليست اليوم فى معرض مجابهة عسكرية مع أمريكا. ورأت الاكتفاء بالصخب الدبلوماسى المصاحب لتدمير «غرفة العمليات» بمطار «الشعيرات» العسكرى، التى كانت مقراً للتنسيق العملياتى الروسى السورى الإيرانى.
الهامش الثانى كان تركياً، بدأته من اللحظات التالية للهجوم الأمريكى تطرح فيه بقوة مرة أخرى مخطط المناطق الآمنة والحظر الجوى، والذى كان قد اندثر قبلاً داخل جلسات الأستانا، ربما ستكثف العمل عليه مستقبلاً كأحد مداخلها للقلب الأمريكى قبل انطلاق معركة الرقة. فلدى أنقرة تصور متكامل للشمال السورى برمته وهو النطاق الحدودى معها ومقر الأكراد السوريين، تستخدم المناطق الآمنة والعوازل الجوية كمجرد رأس حربة، لم تيأس من الرغبة فى تمريره بأى من أشكاله المتنوعة.
الهامش الثالث إسرائيلى، وهى اكتفت فيه بتصريح مقتضب عقب غارة «خان شيخون» بأن معلوماتها تفيد علم روسيا بالقصف الكيميائى، وأنها قد أعطت سماحاً للجيش السورى بتنفيذ ذلك. وصمتت بعدها تراقب حتى اطمأنت لإخطارها المسبق بالغارة الصاروخية الأمريكية، خاصة أنها العمل العسكرى الأمريكى الأول فى عهد الإدارة الجديدة، وأن تكون أول من يعلم قبل التنفيذ يعنى أن لديها استقراراً لقواعد تاريخية لا تقبل المساس بها.
الهامش الرابع إيرانى، وهو بالطبع يشمل قوات الحرس الثورى وميليشيات حزب الله وكلاهما منخرط بالقتال فى صفوف الجيش السورى، وقيادات الحرس بالأخص كان مقرها مطار «الشعيرات»، رغم علمها عن كثب بكافة فصول الرواية بتطورات مشاهدها، إلا أن هناك قراراً بالصمت الكامل عن الفعل والقول صدر من طهران، التزم به الفصيلان الكبيران وتوابعهما لعدم الزج بطهران فى «معادلة خطأ»، تتلهف إدارة ترامب لاصطيادها به، بالأخص على الساحة السورية الشائكة.