بعد ظهر يوم الأحد الماضى تبدل كل شىء.. امتدت يد لتلف البرواز الخشبى الذى يضم صورته لتتوج زاويته اليمنى بشريط أسود اللون لتطل بهيئتها الجديدة على كل من يدلف إلى تلك الغرفة التى كان يخصصها لاستقبال الضيوف والتى ستظل تؤدى ذات الوظيفة حتى بعد غيابه فقد كان «رجل البيت».. حتى خواتيم الصلاة تبدلت كلماتها من أن يعيده الرب من غيبته بالسلامة إلى أن يرحمه الرب «ويقدس روحه ويخلده فى ملكوت السماوات» فقد أصبح من الشهداء بعد أن «رقد على رجاء القيامة مع الشهداء والقديسين».. رغم أنف من يسمون أنفسهم «أصحاب فتاوى التكفير»!!
وسط دموعها تخيلت أمه أن دماءه قد سالت وتناثرت على صفحات «الإنجيل» الذى تحتفظ به أمامها دائماً لتقرأ «أنا هو القيامة والحق والحياة من آمن بى ولو مات فسيحيا».. يوحنا الإصحاح 11 آية 25، فأكملتها وسط نحيب مكتوم!!
لا أحد من أبنائه الثلاثة سوى أكبرهم «مينا» 8 سنوات، يعى سر تبدل الضحكات بالصراخ فى بيتهم فهو يعلم أنه قد أصبح الآن يتيماً.. فيكتور «عامان» وأليس «9 أشهر» لا يدركان من أمرهما شيئاً.. أما الزوجة «فيوليت» والأم فلا يسمعان سوى نعيق البوم الذى لا يزال يرن فى أذنيهما، بينما رائحة الموت التى سرت فى أركان البيت منذ صباح الأحد الماضى تكاد لا تفارق أنفيهما!
تعبير «كان» الذى اكتسبته سيرته أخيراً أصبح له مذاق آخر.. ولمن لم يذق معناه فإنه مجرد ثلاثة أحرف تلخص دراما الحياة.. تثير فى النفس شجوناً.. تفجر حزناً.. تحفر خطوطاً عميقة للألم.. حروف ثلاثة اعتادت أن تفرق.. تفصل.. تنهى.. تدمى قلوباً يوجعها دوماً ألم الفراق.
«كان» من المفروض أن يصحب معه أسرته لأداء القداس فى الكنيسة، إلا أن مرض الرضيعة المفاجئ حال دون ذلك.. لم يتوقع أبداً ولم يدر بخلده على الإطلاق أن يكون هناك مجرم متطرف -صبّ شيوخ متطرفون فى عقله «أن غير المسلم كافر يستحق القتل حتى يظفر هو بالجنة»- يقدم وهو يلف جسده بحزام ناسف ليفجر كنيسة ويقتل أبرياء مسالمين تنفيذاً لكل ما فرضه عليه كتب تراث ورجال دين لديهم قناعات بأنه لا عقوبة لمن يقتل غير المسلم باعتباره «كافراً».. لتُسدد فى النهاية أرواح أبرياء فاتورة إرهاب أحمق انقضّ على مصلين مسالمين.. ولتزهق إذاً أرواح الأبرياء.. ويذبح أبناء الوطن الواحد.. وتسيل الدماء بحوراً وليتوضأ منها «أباطرة الدم»، وليصنع جهاديو فتاوى الفتنة والتحريض من رؤوس الضحايا مسابح لهم ليعددوا عليها مكاسبهم..!
وبينما كانت الابتهالات والتراتيل فى كنائس مصر تردد «لى اشتهاء أن أنطلق وأكون مع المسيح ذاك أفضل جداً» كانت الشفاه فى المنازل والمساجد تتمتم «ولا تحسبن الذين قتلوا فى سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون».. صدق الله العظيم، فقد كانوا بالفعل شهداء.. أفليس من يقتل وهو فى بيت يُعبد فيه الله -سبحانه وتعالى- شهيداً..؟!
نعم لنغضب فكلنا غاضبون.. لنثر فجميعنا ثائرون ولكن فلننتبه جميعاً إلى أننا واحد صحيح لا يقبل القسمة أو الانكسار.. ولنتيقن من أن على أى شىء سنصب جام غضبنا.. وعلى أى هدف سنطلق رصاصات ثورتنا.. ولهذا فقد جاء قرار الرئيس السيسى بتشكيل المجلس الأعلى لمقاومة ومكافحة الإرهاب فى مصر لضبط الموقف كله على كافة الأصعدة: إعلامية كانت أو قضائية أو قانونية لتبدأ بالفعل المواجهة الحقيقية للإرهاب بعد أن كانت هذه المواجهة قاصرة على الجانب الأمنى لـ«الإرهابيين» فقط دون الإرهاب.. فالإرهاب ليس مجرد قنبلة تنفجر أو رصاصة يطلقها أحد الموتورين ولكنها «فكرة» جرى زرعها فى «أدمغة مغيبين ومختطفين ذهنياً»..!
وإذا لم ننتبه جميعاً لكل ما يحاك لنا فإن مصر قد تصبح «مصرين» -إن صح التعبير- مصر التى عاشت فى خاطرنا جميعاً، ومصر التى فى خاطرهم ويستهدفون تحقيقها.. مصر الوحدة، ومصر الانقسام.. مصر المدنية، وتلك الطائفية.. مصر المحبة والسلام، والأخرى مصر الفرقة والكراهية.. مصر العدل والمساواة والرحمة، والأخرى مصر الانقسام والتمييز والتفتيش فى الضمائر.. مصر الأمن والأمان، والثانية مصر الفوضى والخراب.. مصر التى اعتدناها ونريدها، والثانية مصر التى يريدون فرضها علينا.
فلنفق ولنستوعب أن ما جرى يوم الأحد الماضى فى دلتا مصر وفى الإسكندرية جرى تخطيطه بعيداً عن تلك الأرض السمراء التى اختارت أن يضم رمزها ثلاثة ألوان الأحمر والأبيض والأسود، ويتصدره نسر صلاح الدين ويحتضن تحت جناحيه مصريين مسالمين هدفهم الخير وتحكمهم الفضيلة ويحيطهم الحق.. أما هؤلاء الجناة المجرمون ومن يتبناهم فهم ليسوا منا ولسنا منهم.. ورغم أنف سماسرة الدين وأصحاب صكوك الجنة والنار ومنتهجى مبدأ التفرقة فنحن سنبقى شعباً واحداً لا يقبل القسمة على اثنين.. فهكذا كانت معادلة حياتنا على مر مئات السنوات.. وهكذا ستكون.. والأصح هكذا يجب أن تعود.. شعب لا ينظر إلى خانة الديانة فى بطاقة الهوية.. أو يسعى جاهداً ليتأكد من أن اسم كمال أو مجدى يعقبه ميخائيل أو عبدالعزيز فكلنا مصريون ومصابنا واحد!.. وفى النهاية فإن مصر كانت وستظل «واحد صحيح» ولا تقبل القسمة على اثنين.. ولك يا مصر السلامة.