ولأننى سمعت منذ طفولتى قولاً شعبياً يقول: «ربنا عرفوه بالعقل»، ولأن العقل هو منشأ الفهم، فإننى لم أزل متحيراً يا سادتى الأعلام من بعض الإعلانات والبيانات والتحذيرات والإنذارات. ولست أحاول أن أجادل أحداً فى رأيه، ولا أن أرد على أعلامنا العلماء، فما أنا بقادر على مجادلتهم فى فقههم، ولكننى أمام حيرتى أستعيد بعضاً من الأحكام والمقولات أعتقد بصحتها وبضرورة تفهم الدين عبرها. معلناً من البداية احتراماً للأزهر الشريف ولإمامه الأكبر إمام أهل السنة.
• من وصية الرسول (صلى الله عليه وسلم) إلى بريده «إذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله ولكن أنزلهم على حكمك أنت، فأنت لا تدرى أتصيب حكم الله فيهم أم لا».
• وقد روى عن معاذ بن جبل أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لما بعثه إلى اليمن قال له: كيف تقضى إذا عرض عليك قضاء؟ قال أقضى بكتاب الله، قال فإن لم تجد فى كتاب الله؟ قال فبسنة رسوله. قال فإن لم تجد فى سنة رسوله؟ قال أجتهد رأيى ولا آلو، فوافقه الرسول وامتدحه. [أبو عمر يوسف ابن عبدالبر - جامع بيان العلم وفضله - الجزء الثانى - صـ69].
• وروى أبوهريرة عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أنه قال «إن الله يبعث على رأس كل مائة من السنين لهذه الأمة من يجدد لها أمر دينها».
• ويقول الإمام ابن القيم «من أفتى الناس بمجرد النقل من الكتب متجاهلاً اختلاف الناس فى أعرافهم وعوائدهم وأزمنتهم وأحوالهم فقد ضل وأضل وكانت جنايته على الدين» [إعلام الموقعين - الجزء 3 - صـ364].
• والإمام القرافى يؤكد «ينبغى للمفتى إذا ورد عليه مستفتٍ ألا يفتيه بما عادته أن يفتى به، حتى يسأله عن بلده وهل حدث لهم عرف فى ذلك البلد أم لا» [الإحكام فى تمييز الفتاوى عن الأحكام صـ323].
• والإمام محمد عبده يقول «يجب على كل طالب أن يسترشد بمن سبقه سواء كانوا أحياءً أو أمواتاً، ولكن أن يستعمل فيما يؤثر عنهم فإن وجده صحيحاً أخذ به وإن وجده فاسداً تركه» [تاريخ الأستاذ الإمام - صـ762].
• والأستاذ الدكتور محمود حمدى زقزوق [عضو هيئة كبار العلماء] يقول «إن قروناً من التخلف الفكرى والتراجع الحضارى التى مرت بالأمة الإسلامية رسخت فى أذهان الكثيرين مذهبيات فقهية جامدة تتمسك بحرفية النصوص الفقهية دون إفساح أى مجال لإعمال العقل الإنسانى، الأمر الذى جعل التخلف الفكرى والتقليد الممقوت يضرب بأطنابه فى عقول الأمة الإسلامية» [مقاصد الشريعة الإسلامية وضرورات التجديد (2003 - صـ21)].
• والشيخ أمين الخولى يقول «فإذا تحدث أصحاب القديم عن التجديد وبدأ حديثهم هذا مبكراً منذ نحو القرن الثالث الهجرى لم يبق بعد ذلك مقال لقائل ولا اعتراض لمعترض ولم تعد فكرة التجديد بدعاً من الأمر يختلف الناس حوله» ويقول «والتجديد هو تطور وهو ليس إعادة قديم كان وإنما هو اهتداء إلى جديد لم يكن بعد» [المجددون فى الإسلام - (2001 - صـ10)].
• والدكتور محمد الدسوقى يقول: التجديد لا يتحقق بالأمانى وإنما بالجهد والعلم، وتاريخ الاجتهاد فى حياة الأمة يؤكد أن هناك علاقة عضوية بين الاجتهاد الفقهى وتقدم الأمة وقوتها، فالاجتهاد هو القوة المحركة فى الإسلام» [التجديد فى الفقه الإسلامى (2002- صـ50)].
ولعلنا لو أردنا أن نجمع مثل هذه الأدلة عن ضرورة الاجتهاد والإبداع العقلى كأساس لتحقيق تقدم حضارى ومواجهة إصرار المتأسلمين على استخدام ما يغلق أبواب العقل ويرجع كل قول إلى التمسك النصى بالفكر الفقهى الذى يعطى المتأسلمين فرصة استعادة بعض الفتاوى والتفاسير والأحكام التى تجافى العقل والعلم والمنطق، لاحتجنا إلى مجلدات.
وبهذا نكتفى ونواصل جهدنا لتأكيد أن الاجتهاد الذى أصبح ضرورة حتمية وملحة لحماية وطننا وعقول شبابنا من مخاطر التأسلم، هو تعبير عن فكر وفهم إسلاميين منشؤهما العقل المتحرر من أغلال التقليد والساعى نحو التجديد. والاجتهاد فى اعتقادنا لا بد أن يمضى عبر مسارين أولهما إعمال العقل فى النصوص الفقهية لتنقيتها مما يجافى العقل والعلم والتطور وثانيهما دراسة الواقع المعاش ونتائج تطور العلوم الحديثة وما أرسته فى الحياة المجتمعية من مفاهيم. ودون الإقرار بالدور المحورى للعقل وإدراك أنه قادر على كشف ما هو صحيح وما هو إيجابى فى تطور مجتمعنا، ودون تخلصنا من مفاهيم المتأسلمين الخاطئة لما أصبح لدينا القدرة على فهم المنطق الصحيح لعلم أصول الفقه، الذى تتجدد مهامه الأساسية فى تطوير مسارات الاجتهاد ومستوى البحث الفقهى المتجدد ومن ثم إنتاج أحكام شرعية متوافقة مع الواقع المتجدد ومتسقة مع أحكام الشريعة. فعلم أصول الفقه علم عقلى وعقلانى يتطور مع تطور العقل الجمعى وتقدمه، ويقدم لنا مفاهيم وأحكاماً يستمدها من فهم متسع على مختلف العلوم الأخرى كالفلسفة والمنطق واللغة والاحتياجات المجتمعية المعاصرة والمتجددة دوماً.. وفى البدايات نجد أحكاماً فقهية مبنية أساساً على علوم أخرى كالمنطق ومستحدثات العصر، ومنها مثلاً قواعد منطقية مثل: لا ضرر ولا ضرار - رفع العسر والحرج - امتناع التكليف بالمحال - وفساد التكليف بما لا يطاق - ودفع الضرر الأكبر بضرر أقل - وتقديم دفع المفسدة على جلب المصلحة.
فأين نحن يا شيوخنا الأعلام من ذلك كله.. وإلى أين نحن سائرون إن أغلقنا عقولنا ونوافذ قلوبنا عن ضروريات مواجهة الفكر السلفى المتأسلم واللاعقلانى واللاعلمى والمهدد لوحدتنا وتقدمنا.. فهل من إجابة؟ مع كل الاحترام.