.. وما أدراك ما يوم «التنفيض».. ويا له من يوم عصيب أكرهه كراهيتى للظلاميين والتكفيريين.. وقانون ازدراء الأديان، كما أكره أكليشيهات النقاد مثل «إفساد الذوق العام».. و«خدش الحياء العام» و«تدمير وعى المتلقى».. وإعلانات التليفزيون.. وبرامج «التوك شو».. والمعلق الكروى الذى ينصب المبتدأ ويثنى المفرد.. وأكره الكلاب البرجوازية التى تأكل الـ«فيليه البقرى» بصوص كريمة عش الغراب.. وتشرب نبيذ «الروزيه» فى مقابل كلاب السكك الجربانة التى تشارك أطفال الشوارع وسكان العشوائيات الأكل من صناديق القمامة.. والشرب من مياه المجارى..
استيقظت فزعاً وضجيج جر قطع الأثاث وصوت المكنسة وتهشم الأكواب بالمطبخ واشتباك مشحون بهوس انفعالى وعصاب هستيرى من جانب زوجتى فى مقابل تبلد وجدانى مصحوب ببارانويا الاضطهاد «من جانب الشغالة»..
هرولت خارجاً من حجرة النوم إلى الهول فانزلقت قدماى بسبب المياه والصابون الذى يغمر الأرضية.. وهتفت ساخطاً صارخاً فى زوجتى: كيف وأين أستطيع العمل وسط هذه الفوضى.. لقد منحتنى وزارة الثقافة منحة تفرغ لكتابة رواية ولم يبق سوى شهر واحد منها.. ولم أكتب حرفاً..
أفسحت لى حيزاً ضئيلاً من مساحة الكراسى المقلوبة فوق مائدة السفرة وحذرتنى أن أزعجها بأى طلبات أخرى.. أحسست بالإهانة وأسرعت بجمع أوراقى على عجل.. وقررت مغادرة المنزل.. وصفعت الباب خلفى بعنف..
-2-
ذهبت إلى مقهى «ريش» الشهير -الذى فقد شهرته ورونقه وقيمته وزخمه الثقافى والسياسى بعد وفاة صاحبه صديق المثقفين والفنانين- وحاولت أن أطرد من ذهنى ذكريات الزمن الجميل.. والمعارك الأدبية.. والندوات الساخنة التى كانت تجمعنا بالرواد والنخبة من المفكرين والأدباء والشعراء والنقاد والفنانين التشكيليين.. وشرعت فى التفكير فى استهلال بليغ أبدأ به الرواية..
فجأة انقض علىّ رجل كان يجلس إلى منضدة مجاورة (فى نحو الأربعين من عمره.. نحيل.. زائغ النظرات.. متغضن الملامح.. متواضع المظهر).. بادرنى وهو يمد يده مصافحاً فى حرارة:
- إزيك يا أستاذ.. أنا باشبّه عليك.. سيادتك «نجيب محفوظ».. مش كده؟!..
نظرت إليه مأخوذاً ذاهلاً مردداً:
- لا.. الأستاذ «نجيب محفوظ».. تعيش انت.
- بس حضرتك كاتب.. مش كده.. ؟!
- أيوة..
- أنا عندى مشكلة.. ممكن أعرضها عليك.. ؟!
- أنا ما بحلش مشاكل.. ابعتها لباب مشاكل القراء فى الأهرام.
- مش بتقول حضرتك كاتب.. تبقى دماغك كبيرة.
ولم ينتظر حتى أرد عليه بالموافقة من عدمها وأسرع جالساً مردداً وهو يقرض أظافره فى توتر عنيف:
- أنا أعيش فى مأساة يا سيدى.. فقد تزوجت منذ ثلاث سنوات امرأة إذا بلعها الشيطان عجز عن هضمها.. إنها نموذج بشع لسوء الخلق والعدوانية والشر المستطير.. داعشية السلوك.. الشجار والسباب هوايتها واحترافها..
بعد ثلاثة أشهر فقط من الزواج ضربَت رأسها فى الحائط وذهبت إلى قسم البوليس والدماء تغطى وجهها مدعية أننى الجانى.. وبعدها بعدة أسابيع.. عدت من عملى فلم أجدها ولم أجد أثاث المنزل بأكمله.. وأسرعَت بتحرير محضر سرقة وتبديد منقولات ضدى.. وبعدها.. هتفت مستنكراً مقاطعاً:
- وبعدها إيه؟!.. لم يعد سوى الاعتداء عليك بالضرب، أنا أعلم أن نسبة ضرب الزوجات لأزواجهن زادت فى الفترة الحالية..
- حصل.. وعملت لى فضيحة فى العمارة كلها..
- ولماذا لم تطلقها؟!..
- ثانياً... الحقيقة...
قلت فى دهشة مقاطعاً:
- أنت لم تقل أولاً..
- لأن ثانياً أهم..
ثم مستدركاً: ثانياً لأنها برغم كل عيوبها سيدة شريفة.. عفيفة.. تعرف الحلال والحرام.. غير متبرجة ولا خليعة.. ولم يلمسها فى حياتها أحد غيرى..
- يا راجل.. هذه الزوجة بها من العيوب ما يكفى لتطليق عشرات الزوجات من أزواجهن.. المشكلة فيك أنت.. أنت شكاك.. سيئ الظن بدرجة يستحيل معها أن تطمئن إلا إذا تزوجت غولة.. لأنك ضعيف الثقة فى نفسك وتتصور أن الزوجات خائنات بالسليقة.. وهذا غير حقيقى..
- يبقى لازم تعرف أولاً.. أولاً أنا مسيحى.. ولا طلاق إلا لعلة الزنا.. وقد تجرأت مؤخراً ورفعت ضدها دعوى طلاق مستنداً إلى أن السلطة الدينية توسعت مؤخراً فى بنود الزنا الحكمى رحمة بالذين يتوقون إلى لحظة الخلاص أو إلى حل إنسانى يخلصهم من عذاباتهم.. فيواجهون بقرارات قمعية قاسية.. تخاصم حقوق الإنسان حيث تجبرهم على أوضاع معيشية لا يرغبونها بسبب إلغاء البابا شنودة للائحة (38) الرحمة التى كانت تسمح بالطلاق لأسباب ثمانية منها النفور واستحالة العشرة واعتداء أحد الزوجين على الآخر.. وحاولت أن أعثر على تسجيلات صوتية مفبركة لإثبات الزنا لإتمام الطلاق بالإضافة إلى بعض شهود الزور.. ولكن كل تلك المحاولات فشلت.. ولم يبق إلا حيلة أشار بها علىّ المحامى.. وهى أن أكتب إقراراً يحمل توقيعى أقدمه لمحكمة الأسرة أعترف فيه كذباً بأننى أنا الزانى.. وفى هذه الحالة تتم الموافقة على الطلاق.. ولكنى رفضت..
- لماذا؟!.. لأنك تعففت عن الكذب.. ولا تريد أن توصم نفسك بفعل مشين؟!..
- لا.. ولكن لسبب أهم.. ستصبح هى الطرف المجنى عليه.. أى المستفيد.. حيث يحق لها التصريح بالزواج مرة ثانية.. وأحرم أنا من هذا الحق باعتبارى الجانى الأثيم..
ضحكت بشدة وعلقت ساخراً..
- يا راجل.. انت ماحرمتش.. بعد هذه التجربة البشعة.. ما زلت ترغب فى الزواج مرة أخرى؟!.. كنت أتصور أن تقول لى إنك كرهت الزواج والمرأة.. وكل نساء العالم.. وتاء التأنيث..
-3-
عدت إلى المنزل.. وقد أضاع الرجل وقتى دون أن يتسنى لى أن أكتب حرفاً واحداً.. وإن كنت قد تحمست جداً لقضيته وقررت أن أصرف نظر عن موضوع الرواية التى كنت سأشرع فى كتابتها.. والبدء فوراً فى صياغة هذه التجربة الإنسانية والمعضلة البشرية ذات الأبعاد الاجتماعية والنفسية والعقائدية المتصلة بذلك الرجل فى رواية.. تعنى بتفجير قضية مهمة من قضايا الأحوال الشخصية.. والمطالبة بقانون جديد ينتصر للعدالة والدولة المدنية ولحقوق الإنسان ضد الجمود والتعنت وفرض الوصاية الاجتماعية والإنسانية باسم الدين من قبل الكهنة على بشر معذبين يبحثون عن الرحمة والخلاص والحب والسلام، التى بشر بها المسيح منذ أكثر من ألفى عام.
واجهت زوجتى بغضب أن روايتى الطموح لن ترى النور أبداً طالما أنى لا أنعم بالهدوء الكافى والقدرة على التركيز داخل المنزل.. ورجوتها أن توافق على منحى إجازة زوجية لمدة شهر تقضيه فى منزل والدها.. وافقت على مضض..
-4-
انتهيت من كتابة الرواية التى حققت مبيعات ضخمة ونجاحاً أدبياً ونقدياً كبيراً.. وحصلت بموجبها على الجائزة الأولى فى فن الرواية فى مهرجان أدبى.. وفى حفل توقيع الكتاب سجلت معى مذيعة بإحدى القنوات التليفزيونية لقاء سألتنى فيه: لمن تهدى هذه الرواية؟!..
قلت على الفور:
- إلى زوجتى الحبيبة.. أيقونتى الغالية.. قرة عينى.. ورفيقة دربى.. التى لولا عدم وجودها لما رأت هذه الرواية النور..