ما دمنا نحن مصرين على الإبقاء على الاشتباك قائماً، ورفض الاعتراف بأننا سقطنا فى هوة عميقة، فلن نخطو خطوة إلى الأمام، والأرجح أننا سنتدحرج ونتكور ونتقهقر خطوات إلى الوراء، وحيث إن أقصى درجات الإبداع والابتكار فى تجديد الخطاب الدينى لم تتحرك قيد أنملة عن محتويات الصندوق القديم المستهلك الذى أكل عليه الزمان وشرب، فعلينا أن نبلغ القاع بأننا مقبلون بسرعة الصاروخ.
صواريخ تجديد الخطاب الدينى أو تحديثه (لم تعد المسميات تهم) نجم عنها كشك فتوى، ووعاظ يترددون على المقاهى الثقافية (لست أدرى المقصود بها بالضبط)، وبرنامج مكثف لتدريب واعظات الأزهر قبل إطلاقهن علينا، ووحدة رصد ومتابعة فى مرصد الفتاوى التكفيرية والآراء المتشددة فى دار الإفتاء وقائمة من الأفكار الشبيهة.
شبهة رفض الاعتراف بما أصابنا من هسهس تديينى ووسواس قهرى يتشبث بمظاهر الدين، وإمساك بتلابيب شكل مستورد من أشكال التديين، تحولت إلى نمط وأسلوب حياة، ولأن الشعب لم يعد متديناً بالفطرة، بل أصبح مرتكناً على مظاهر تدين (لا تعكس بالضرورة إيماناً والتزاماً وعملاً وضميراً بل العكس هو الصحيح فى أغلب الأحوال)، وكأنها مهرب من الكسل والطمع وقلة الحيلة وضيق ذات اليد والأفق وتدهور التعليم إلى آخر القائمة المعروفة، فقد أصبح طوق النجاة هو نفسه طوق الإعدام.
لو كنت عضواً فى البرلمان لاقترحت قانوناً يعاقب التقصير الأمنى فى لحظات الخطر بالإعدام، وقبل أيام خضت تجربة لخصتها بالسطور التالية فى تدوينة على «فيسبوك»، «أكثر من ساعتين قضيتها فى دهاليز مترو الأنفاق لأننى مواطنة إيجابية فى مكان لا مجال فيه إلا للمهلبية، موظف الأمن اللى شغلته التدقيق فى شاشة جهاز الكشف عن المفرقعات قاعد بيتسامر مع زميله على شاشة الموبايل ومالوش علاقة بالجهاز أو بالشاشة، نبهته قالى مالكيش دعوة فى الأول، وبعدين قالى إن عنده إمكانية يشوف المواد الخطرة من غير ما يبص فى شاشة الجهاز، وتصاعد الموقف فصممت أروح للضابط لكن الضابط كان بيصلى العشاء فى زاوية المحطة (التى هى على أرض المحطة)، صممت أستناه وسط محاولات أمين الشرطة إن انتظاره أمام الزاوية اللى هى فى المحطة ممنوع، أنا عملت نفسى مش سامعة، وانتظرت الضابط لغاية ما خلص كمان السُنة (بحكم طول فترة الانتظار). وبمنتهى..... (استخدمت نعتين ينمان عن هدوء الأعصاب المفرط) قال لى: أهم حاجة تبعدى عن الزاوية لأن الناس بتصلى، المهم طلبوا منى أروح محطة الشهداء لو مصممة على تحرير شكوى، فرحت بدون تردد، وبعد وقت طويل جداً تم تحرير شكوى وسط تأكيد الموظف المقصر أنه لم يخطئ، وبالطبع تعاطف الجميع معه لأن حرام ومعلش النوبة وجرى إيه يعنى؟!! أحب أقول لكم إن بقاءنا على قيد الحياة is pure good luck (حظ سعيد خالص)».
وأضيف هنا أن معاون المباحث فى محطة «الشهداء» كان أكثر تفهماً وإيجابية ونشاطاً، بل إنه بادر للاتصال بالمحطة التى قدمت منها بعد ما أخبرته بأن مجنداً لفت انتباه الموظف المقصر بضرورة النظر فى شاشة الجهاز بدلاً من الهزار، وتحدث إلى المجند شاكراً إياه على انتباهه.
انتهت القصة، وهى بالمناسبة قصة متكررة على مدار الساعة، موظف أمن غارق فى لعبة «كاندى كراش» بديلاً عن متابعة عمله، أمين شرطة يغفو أثناء ساعات العمل، ضابط يصلى الفرض والسنة بدلاً من متابعة سير العمل، زبيبة صلاة تشفع للمقصر تقصيره، حجاب أو نقاب يحميان صاحبتهما من مساءلة بسبب تكاسل أو تباطؤ أو قلة ذوق فى العمل، وخلطبيطة وخلطة جهنمية تجعل من الدين مهرباً وليس ملجأً.
اللجوء إلى التحجج بأن ما نحن فيه من تدهور وتردٍ وتبلد وقبح ما هو إلا «نصيبنا» أو أن مؤامرة كونية تحاك لإسقاطنا هو عين المؤامرة، نحن نتآمر على أنفسنا وقلوبنا قانعة وضمائرنا مرتاحة ونفوسنا راضية، لأننا متدينون فأكيد ربنا راضى علينا وكفى، وكل ما يصيبنا بعد ذلك فهو ما كتبه الله لنا، بلسم التديين مريح ومهدئ، المظاهر المتدينة مرطبة، والشعور بأنك ذاهب إلى الجنة لا محالة له أثر المخدر، تخدرت الملايين بمنهج إلصاق تبرئة النفس من التطرف والإرهاب، لكن التطرف درجات وكذلك الإرهاب من منطلق قتل الكفار أيضاً درجات، وهما يبدآن بالتحدث عن «عقيدة فاسدة» لأتباع ديانة أخرى أو «نجاسة معنوية» وينتهيان باعتبار القتل تقرباً إلى الله، التقرب إلى الله يمر عبر التقرب إلى الحقيقة، والتوجه العام يميل إلى اعتبار الربط بين الإرهاب والمسلمين هو «إسلاموفوبيا»، ومعروف أن كلمة «فوبيا» أو «رهاب» تشير إلى خوف متواصل من مواقف معينة، وأن هذا الخوف الشديد والمتواصل يجعل الشخص المصاب عادة يعيش فى ضيق وضجر من الشىء الذى يخاف منه دون أسباب منطقية، على صفحة الأزهر قرأت التالى: «المتطلع فى العالم يرى بوضوح أن الرسم البيانى لمظاهر الإسلاموفوبيا حول العالم فى تزايد مستمر مع استمرار الآلة الإعلامية فى تشويه صورة المسلمين هنا وهناك، وربطهم بالإرهاب والتطرف فى أذهان المجتمعات الغربية، حتى بات لدى الكثير منهم ارتباط شرطى بين الإسلام والتطرف»، طيب ماذا عن الارتباط الشرطى بين العمليات الإرهابية فى الداخل والتكفير؟ وماذا عن داعش والخلافة الإسلامية؟ وماذا عن حوادث الدهس والطعن على إيقاع التكبير؟ وماذا عن تهليل الإخوان وفرحتهم بالعدالة الإلهية مع وقوع كل شهيد من الشرطة أو الجيش؟ وماذا عن صلاة الجماعة والسنة وترك الوضع الأمنى فى مترو الأنفاق يضرب يقلب؟ فك الاشتباك ضرورة، والاعتراف بأن فخفخينا التديين تقتلنا حتمياً إن أردنا النجاة، فإن لم نرد، فلنكتب المقالات عن الإسلاموفوبيا ومؤامرة الغرب للنيل من الإسلام ومحاولات المجرة لكسر شوكة المسلمين.