فارق كبير بين أن تمتلك الدولة والمجتمع القدرة على إدراك ما يستهدفهما بغرض مواجهته وإبطال آثاره الضارة، وبين أن يرهن كلاهما نفسه ومستقبله، ويُسخّر جُلّ طاقاته للشكوى من التآمر، والفزع من المتآمرين.
إضافة إلى ما تسببه المؤامرات التى تُحاك ضد المجتمعات والدول، فى كثير من الأحيان، من تقويض للاستقرار وزعزعة للأمن وارتباك فى الأداء، فإن ثمة خطراً أكبر يمكن أن يحدث حين تنجح فى الهيمنة على العقل الجمعى، بما يستلبه، ويشل تفكيره فى كل ما عدا المؤامرات وتداعياتها.
لا يمكن أن تخصص دولة كل جهودها وطاقاتها لتسليط الضوء على المؤامرات التى تستهدفها، والحشد لمواجهتها، على حساب أطر العمل الضرورية الأخرى، والحالة العقلية والنفسية العامة للجمهور والمؤسسات، لأن ذلك تحديداً يمكن أن يكون هدف المؤامرة الأعلى فى حد ذاته.
لو كانت لدينا القدرة على تحليل محتوى الخطاب الذى ساد فى المجال العام المصرى على مدى الأسابيع الفائتة لوجدنا، على الأرجح، أن كلمة «المؤامرة» أكثر الكلمات استخداماً، خصوصاً فى وسائل الإعلام الجماهيرية ووسائط «التواصل الاجتماعى».
ما زالت السلطة فى مصر، مثل كثير من دول العالم الثالث، قادرة على «إرساء أولويات» الاهتمام العام عبر تحكمها فى «وضع الأجندة» Agenda Seating، إذ يكفى أن تقرر القيادة السياسية أن تضع عنواناً للنقاش العمومى وأن تطرحه فى خطاب أو حوار أو بيان، ليتحول هذا العنوان فوراً إلى القضية الأكثر بحثاً وتداولاً، لحين «ورود عناوين جديدة».
يبدو أن هذا بالضبط ما فعله الرئيس السيسى حين طرح موضوع «المؤامرات التى تُحاك من أجل إسقاط الدولة المصرية»، داعياً وسائل الإعلام إلى «تسليط الضوء» عليها، خلال كلمة ألقاها فى «مؤتمر الشباب» الأخير الذى عُقد بمدينة الإسكندرية.
ولأن معظم وسائل الإعلام المصرية فى الوقت الراهن تُظهر اصطفافاً مع الدولة فى معركتها ضد الاستهدافات الخارجية، وتؤمن بضرورة توعية الرأى العام بتلك الاستهدافات، وصولاً إلى «إجهاض المؤامرات» و«تثبيت الدولة»، وتعزيز قدرتها على البقاء رغم إرادة أعدائها، فقد قرر القائمون على تلك الوسائل أن يكون موضوع المؤامرة حاضراً فى معظم النقاشات.
ولذلك، فقد بات «حديث المؤامرة» مهيمناً على كافة منابر النقاش العمومية، لدرجة أن رسامة الكاريكاتير دعاء العدل اضطرت إلى أن تخصص مساحتها، فى أحد أعداد صحيفة «المصرى اليوم»، لرسم يُظهر موظفاً وصل إلى عمله متأخراً، ليتلقى عتاباً من رئيسه، فيعمد إلى التبرير، قائلاً: «اتكعبلت فى مؤامرة وأنا جاى فى الطريق يا فندم».
يقول قطاع من النقاد إن التوسل بذرائع التآمر وصفة للأنظمة الخائبة يركن إليها القادة لتبرير هزائمهم وعجزهم وفسادهم، ويذهب بعض الغلاة بين هؤلاء النقاد إلى أنه «لا توجد مؤامرة أصلاً»، وأن تدابير الاستهداف التى تنخرط فيها الدول والتنظيمات ضد بعضها البعض ليست سوى بعض آليات العمل السياسى وطريقة من طرق التعبير عن المواقف والمصالح عند ممارسة العلاقات الدولية.
إن هذا الاعتقاد ينطوى على مغالاة، كما أنه يحمل ذرائع نفيه فى طياته.
فالمؤامرة وُجدت منذ مطلع التاريخ، ويمكن القول إن تاريخ العلاقات الدولية ليس سوى تاريخ المؤامرات نفسها، وفى هذا الصدد يكفينا للتدليل على ذلك أن نورد بعض الوقائع التى نذكرها جميعاً، مثل إنشاء دولة إسرائيل، وتقسيم المنطقة العربية عبر اتفاقية «سايكس بيكو»، والعدوان الثلاثى على مصر، وصولاً إلى الدور المساند للإسلام السياسى فى مواكبة اندلاع انتفاضات ما عُرف بـ«الربيع العربى».
لم يكن العدوان الثلاثى إذن سوى مؤامرة مكتملة الأركان ضد مشروع الرئيس الراحل عبدالناصر الوطنى والإقليمى والدولى، وقد استلزم إجهاض هذا المشروع أن يجتمع قادة ثلاث دول، بينهما دولتان عظميان بمعايير النصف الأول من القرن الفائت، لكى يقرروا شن عدوان على دولة نامية، تحاول أن تخلق لنفسها مكانة فى أجواء صراع دولى وإقليمى شرس.
ولم يكن ما فعلته قطر وتركيا، وبعض دوائر الحكم النافذة فى عدد من الدول الغربية الرئيسة، بمواكبة التطورات الدراماتيكية التى ضربت المنطقة مع مطلع العقد الحالى، من دعم وتأييد وتمويل للتيارات الدينية المتشددة فى أكثر من بلد عربى، سوى مؤامرة مكتملة الأركان، على مستقبل تلك البلدان وهوياتها الوطنية.
لدينا إذن الكثير من البراهين لإثبات أن ثمة مؤامرات، كما يمكن ببساطة شديدة إثبات أن مصر بالذات تتعرض للتآمر، خصوصاً منذ اندلعت الانتفاضة فى يناير 2011.
كيف تم التنسيق بين عمليات التظاهر وفتح السجون وتهريب السجناء الخطرين؟ وكيف تم التمهيد لهيمنة الإسلاميين على «الثورة» التى اندلعت من منطلق ليبرالى/ يسارى (نادت بالخبز والحرية والعدالة الاجتماعية)، لتتحول إلى المطالبة بـ«تطبيق الشريعة»؟ وكيف تدخلت دول إقليمية وغربية، ونسقت، ودعمت، ومولت جماعات إرهابية، وغطت ممارستها للعنف؟ وكيف نسقت تلك الدول نفسها مع فصائل فى الداخل، لكى تتزامن العمليات الإرهابية فى الوادى مع أخرى فى سيناء، مع ضغوط سياسية فى المحافل الدولية، وحملات من منظمات مجتمع مدنى مشبوهة، وآلة إعلامية ضخمة تسخّر جُلّ مجهودها للإضرار بصورة الدولة، ودعوة مواطنيها للعصيان وممارسة العنف ضد السلطات؟
لا يمكن لمنصف أن ينكر أن مصر تعرضت بالفعل لمؤامرات خلال تلك الفترة، وأن تلك المؤامرات استهدفت تقويض الدولة، وإفشالها، أو زعزعة استقرارها وكبح تقدمها، كما لا يمكن لعاقل أن يعتقد أن ذلك الأمر يخص مصر بعينها ولا يطال غيرها من الدول، أو أن مواجهة هذه التحديات تتطلب إرباك المجتمع، وتحويل وسائل الإعلام به إلى أدوات دعاية «تقرع طبول الحرب المقدسة لإنقاذ الوطن».
من الصعب جداً التغاضى عن حادث اصطدام قطارَى الإسكندرية، فى وقت سابق من الشهر الحالى، وعدم اتخاذ القرارات المناسبة لمحاسبة المسئولين عنه، وتفادى حدوثه فى المستقبل، بداعى أن البلد يواجه مؤامرات خارجية.
كما يصعب أيضاً أن نتجاهل أن هذا الحادث ليس سوى حلقة من سلسلة كبيرة وممتدة من حوادث القطارات، يبلغ عددها أكثر من 1200 حادث سنوياً.
ما تحتاجه مصر ليس فقط تعبئة عامة أو حشداً واصطفافاً فى المعركة الأخيرة «قبل سقوط الدولة»، ليس هذا هو الدواء الشافى للحالة المصرية، فكل ما هنالك أن مصر، كدولة إقليمية مهمة ومحورية، تتعرض للتآمر من قوى إقليمية ودولية، وبسبب «عيوب هيكلية» فى بنيتها و«تراجع درجة مناعتها المؤسسية» فإن تلك المؤامرات التى تستهدفها تؤثر فى استقرارها وقدرتها على الإنجاز، وربما تتصاعد نتائج هذا التآمر فتفضى إلى عجزها عن الوفاء بأدوارها الجوهرية، وهو أمر خطير من دون شك.
والحل ليس إثارة الفزع والهلع، ولا رهن الدولة بأكملها للتحسب من المؤامرة ومواجهتها، وإنما علاج «العيوب الهيكلية»، وزيادة «المناعة الوطنية»، وهذا الأمر يتحقق فقط عبر التوعية، والمشاركة، والتعدد، والنقد البنّاء، وإخضاع الأداء للتقييم، ومساءلة المخطئ والفاسد والمقصر والفاشل، مهما كان موقعه، ومهما كان حجم المؤامرات التى تستهدف الوطن.