فكر أن يخطب فى شعبه.. أراد أن يتقرب إليهم وأن يصفقوا له طويلاً.. أراد أن تهتز الدنيا لخطابه.. ود لو أنه بنى ديمقراطية حقة يباهى بها الأمم الأوروبية التى تقع فوقه على الخريطة، ولا يفصله عنها سوى البحر المتوسط فى نقاطه الضيقة، ولكنه لم يحقق أى تقدم يذكر على صعيد الديمقراطية أو الحريات العامة أو تداول السلطة.
عدل عن فكرة أن يحدث شعبه والعالم عن ديمقراطية بلاده فى عهده، فالحياة السياسية راكدة تماماً فى بلاده وهى كالجثة الهامدة.
فكر أن يحدث شعبه عن العدل الاجتماعى ورعاية الفقراء واليتامى والأرامل وتقليل الفجوة بين الثروات والطبقات، وأن يكون معيار الثروة هو العمل والإنتاج لا القرب من ذوى السلطان والنفوذ أو استغلالهم، تذكر الفساد المستشرى والبطالة واستغلال النفوذ وأشياء كثيرة أخرى مقيتة.
تمنى أن يحدث شعبه عن المساواة بين المواطنين فى حقوقهم من ثروات البلاد، لكنه أدرك أن العدل الاجتماعى غائب عن بلاده وأن التفاوت الطبقى خطير، وأن الأموال التى نهبها زين العابدين بن على وعصابته لم تعد، وأن تطوير المنظومة الاجتماعية التونسية أكبر من قدراته، صرف بصره وفكره عن حديث المساواة فى ثروات بلاده كل بحسب جهده وعرقه وعلمه وعمله.
تمنى أن يحدث الشعب التونسى عن تحويل بلاده لقلعة صناعية كبرى تشابه أو تفوق كوريا الجنوبية أو اليابان أو حتى ماليزيا، ولكن الإحباط أصابه فتونس لا تصنع شيئاً على الإطلاق، حتى تجميع السيارات الفرنسية لا يتم بها بل فى المغرب.
حاول أن يبحث عن مصانع تونسية عملاقة يفخر بها أمام شعبه والعالم، فتذكر أن بلاده تستورد كل شىء، ولا تصنع شيئاً، بدأت النهضة التونسية قبل كوريا والصين ولكنها لم تنتج شيئاً.
موعد الخطاب يقترب.. وكلما جهز فكرة جديدة يفخر بها لم يجد لها واقعاً فى بلاده، الوقت يضغط على أعصابه والهموم تكاد تقتله وذاكرته بدأت تخونه بفعل السنين وهموم الحكم.
تذكر أيام «بورقيبة» حينما لم يجد شيئاً يبرر به خيبة البلاد الاقتصادية فى عهده وترديها المالى سوى صيام رمضان، إنه السبب فى تدهور الاقتصاد التونسى.
خرج «بورقيبة» وقتها على شعبه وأمرهم بالإفطار فى شهر رمضان، تقمص مسوح الرهبان والشيوخ وأصبح يفتى فى الدين وهو الذى لم يقرب الصلاة يوماً، برر لهم أمره «صيامكم هو سبب الكارثة الاقتصادية فى بلادنا»، حل المشكلة الاقتصادية هكذا فى ثوانٍ معدودة لم ينقصه لاكتمال عدة الرفاهية الاقتصادية سوى توقيع المفتى.
أمر المفتى التونسى وقتها الطاهر عاشور بأن يرضخ لرأيه، أغراه بذهب المعز، وأراه سيفه فى الوقت نفسه، «لا يصلح مع الشيوخ سوى ذلك» هكذا كان يرى «بورقيبة».
خرج المفتى مضطراً على الناس يقدم رِجْلاً ويؤخر أخرى، لم يجد شيئاً يقوله للناس سوى أن تلا عليهم قوله تعالى «كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ»، وترك فهم الباقى للجماهير وكأنه يقول للناس هذا أمر الله وهذا أمر بورقيبة، ولكم أن تختاروا.
نسى «بورقيبة» أن أكبر نسبة رواج اقتصادى لكل السلع والمهن وحتى شركات الطيران هى فى رمضان، هو لا ينظر للحقيقة المجردة بإنصاف، نسى أن اليهود يصومون والمسيحيين يصومون كذلك، ولكنه لا يستطيع الخوض إلا فى تعاليم الإسلام.
قال الرجل: «وجدتها.. وجدتها»؛ أكرر فكرة «بورقيبة» الذى كان يلهى الناس عن قضايا الحكم الحقيقية والديمقراطية وتداول السلطة والعدل السياسى والاجتماعى بمثل هذه الفرقعات الكاذبة الخاطئة.
فكرة عبقرية أراد الرئيس التونسى السبسى أن يكررها، سينشغل الناس عنى وعن قضايا الحكم الحقيقية عاماً كاملاً على الأقل بهذه الفرقعات ما بين مؤيد ومعارض وبعدها تُفرَج، ولكنه حزن لأن «بورقيبة» فرقع كل البالونات قبله.
فرح أخيراً وقال لنفسه: «وجدتها.. وجدتها»، خرج على الناس ليهدم ما لم يهدمه بورقيبة من ثوابت الإسلام، أحل زواج المسلمة بغير المسلم، ساوى بين الرجل والمرأة فى الميراث.
حدثت الضجة الكبرى، هلل بعض العلمانيين المتطرفين وصفقوا: «إنه نصر عظيم»، لا يهم الاستبداد أو الفشل الاقتصادى والصناعى والتقنى أو الحريات العامة فلتذهب كلها إلى الجحيم، المهم كسر الإسلام وثوابته بين الحين والآخر، هاج الإسلاميون وماجوا وخرجت منهم كل الكلمات الجارحة والمكفرة، تشابك الفريقان.
لم يقل أحد لـ«السبسى»: «ما دخل الدين بالسياسة وأنت الذى تدعو دوماً لفصل الدين عن السياسة، دع الدين لأهله يا سيادة الرئيس، وحدثنا عن إنجازاتك السياسية والاقتصادية والصناعية والزراعية وماذا فعلت للبلاد والعباد؟».
تحقق مراد الرئيس التونسى السبسى، انقسم الناس وتشاتموا وتفرقوا وتمزقوا وتصارعوا، نسوا كل شىء يختص بمهام الحكم الحقيقية، لم يسأله أحد عن إنجازاته الحقيقية، بشر نفسه بأنه سيمكث فى الحكم مثل «بورقيبة» الذى أصابه الزهايمر ولم يترك الحكم حتى خلعه ربيب نعمته «بن على»، تتكرر الأحداث والدروس ولا يتعلم أحد.