على مدى الأسبوعين الفائتين تزايدت حدة الهجوم على بعض ما ورد فى «كتب التراث»، وبدا أن حملة منهجية تُشن عليها، وصولاً إلى تكريس الاعتقاد بأن «حل مشكلات مصر كلها يكمن فى تنقية كتب التراث مما بها من خرافات وأخطاء.. وبعد ذلك نتفرغ لتحقيق النجاح وقطف ثماره».
هذا ما جرى بكل دقة، ومن دون أى مبالغة، إذ لم يكد يمر يوم واحد من دون أن تقرأ عموداً فى صحيفة، أو تستمع إلى برنامج إذاعى، أو تشاهد «توك شو» فضائياً، يقول صاحبه إن القضاء على ما تحويه كتب التراث من خرافات وروايات تافهة يمثل حلاً لمعظم مشكلاتنا، وضمانة لانتقالنا إلى عصر الحداثة.
فهذا صحفى لامع ومحلل بديع ومتحدث لبق يقول فى برنامجه الإذاعى إن «تدريس كتب الشيخ أبوزهرة فى المدارس يمكن أن يقضى على التطرف فى ثلاث سنوات».
وتلك أديبة وكاتبة مرموقة تقول بكل ثقة وحزم إن «تنقية كتب التراث من الخزعبلات التى تتضمنها يضمن لنا القضاء على الإرهاب».
وحتى هذا الكاتب المتخصص فى التراث والفكر الإسلامى، والمعروف بتوغله الشديد فى مسارات البحث المعقدة فى هذا المجال، يقول إن «سبب العمليات الإرهابية التى نواجهها موجود فى الكتب التى يدرسها طلبة الأزهر، ويتسرب بعض ما فيها إلى كتب التعليم العام».
لقد اتفق كتّاب وباحثون وسياسيون وخبراء كبار وموثوقون على أن مشكلة الإرهاب التى نواجهها أساسها «فكرى» و«قيَمى»، وأن معظم ما نواجهه من عمليات إرهابية يعود إلى بعض ما كُتب ونُقل إلينا عبر كتب التراث وبعض الشروح الفقهية.
يقرر هؤلاء باطمئنان ووضوح شديدين أن النزعة التمييزية ضد إخوتنا المسيحيين، وصولاً إلى تكفيرهم، منبعها كتب التراث، وأن اختلال «الأجندة العامة»، وفساد عملية إرساء الأولويات الوطنية سببها الفكر الدينى المتعصب والمتحجر المنقول إلينا عبر كتب التراث، وأن العمليات الإرهابية تقع ببساطة لأن منفذيها تأثروا بكتب التراث.
إن هذا التحليل خاطئ بكل تأكيد، وترويجه وتكريسه يحرمنا من معالجة الأسباب الحقيقية لما نواجهه من إرهاب وتطرف.
وبكل بساطة، فإن إلغاء جميع كتب التراث التى بين أيدينا الآن لا يضمن، ولا يؤدى مباشرة، إلى نزع ذرائع الإرهاب والتطرف، لأن أسباباً أخرى تتفاعل وتصنع تلك الذرائع وتطورها.
فى فبراير الماضى، كان شيخ الأزهر الإمام الدكتور أحمد الطيب يتحدث فى مؤتمر «الحرية والمواطنة.. التنوع والتكامل»، محاولاً الدفاع عن صورة الإسلام، التى راح كثيرون يوجهون سهام النقد والاتهام لها باعتبار أن معظم العمليات الإرهابية التى يسمع عنها العالم راهناً يتم إلصاقها بالمسلمين ودينهم.
قال الإمام الأكبر بوضوح: «لقد مرت بسلام أبشع صور العنف المسيحى واليهودى فى فصل تام بين الدين والإرهاب، ومنها على سبيل المثال: اعتداءات مايكل براى بالمتفجرات على مصحات الإجهاض، وتفجير تيموثى ماكْفى للمبنى الحكومى بأوكلاهوما، وديفيد كوريش، وما تسبب عن بيانه الدينى من أحداث فى ولاية تكساس.. فضلاً عن الصراع الدينى فى أيرلندا الشمالية، وتورط بعض المؤسسات الدينية فى إبادة واغتصاب ما يزيد على مائتى وخمسين ألفاً من مسلمى ومسلمات البوسنة».
لم يُرد شيخ الأزهر من تلك الجردة أن يغمز من قناة أتباع الأديان الأخرى، أو أن يتهمها بالإرهاب، وبأنها تحوى توجيهات بالتمييز والكراهية ضد كل من يتبع ديناً سواها، ولكنه أراد ببساطة أن يوضح أن الإرهاب لا يرتبط بدين معين، وأن ذرائع أخرى تدفع الأفراد والجماعات ليكونوا إرهابيين، قد يكون الفكر الدينى الفاسد والخاطئ بينها، لكنه بالتأكيد ليس السبب الوحيد، ولا حتى أهم الأسباب.
لقد كان تاريخ الإرهاب تاريخاً ممتداً وعابراً لكل العصور وكل الأديان، بحيث لا يمكن نسب الفكر الإرهابى إلى دين بعينه أو تأويل دينى بذاته.
يقودنا هذا إلى محاولة تقييم الدور المحدد الذى يلعبه التأويل الدينى، بما فيه ما يرد فى كتب التراث، فى تسويغ عمليات العنف والإرهاب، وهو الأمر الذى يطرح التساؤلات المهمة عن طبيعة الارتكاز الأيديولوجى للتنظيمات الإرهابية، مثل «داعش»، و«القاعدة»، والتنظيمات والدول التى تمارس العنف أو تشن الحروب توسلاً بالأيديولوجيا الدينية، وهو اقتراب بحثى ضرورى، لصلته الحتمية بالجهود التى يجب أن نبذلها فى سبيل التصدى لتلك النزعات التخريبية.
يقول الباحث الأمريكى «بريان فيرجسون»، فى بحثه الفريد «عشر نقاط فى الحرب» Ten Points on War، إن ثمة عشرة مداخل نظرية واجبة لفهم ظاهرة اللجوء إلى العنف فى التاريخ البشرى، ومن بين هذه المداخل، تأتى نقطته الثالثة التى تُفَصّل هيكيلة صنع قرار ممارسة العنف.
يرى «فيرجسون» أن قرار ممارسة العنف يُتخذ وفق «هيراركية» معينة، ولتبسيط الأمر فإن عملية اتخاذ هذا القرار يمكن أن تمر عبر مثلث، قاعدته تتضمن «البنية الأساسية» للقرار نفسه Infrastructure، أى الذرائع الأساسية للقرار والسلوك والممارسة، ويحدد تلك الذرائع فى الإجابة عن السؤالين: لماذا نقاتل؟ وبماذا نقاتل؟
يؤكد هذا الباحث، ومعه عشرات من الأكاديميين والمتخصصين فى علوم الحرب والإرهاب، أن المصالح الشخصية للأفراد والجماعات، بما تتضمنه من مطالب أو مظلوميات تأتى على رأس الأسباب التى تدعو إلى اتخاذ قرار ممارسة العنف.
يعتقد «فيرجسون» أن الأطراف التى تشن عمليات إرهابية، أو تعتقد أن أهدافها لا يمكن أن تتحقق إلا بالقتال والعنف لا يمكن أن تتخذ هذا القرار بمعزل عن وجود عوامل بنيوية يمكن أن تساعدها على ممارسة العنف.
علينا أن نتذكر كيف تلقت تنظيمات مثل «القاعدة» دعماً سياسياً ولوجيستياً وتسليحياً من قوى عظمى ودول إقليمية مؤثرة فى بدايات تكوينها، وعلينا كذلك أن نتذكر الدعم الذى حصل عليه تنظيم «داعش» من بعض دول المنطقة.
فى المرحلة الثانية، وفق «فيرجسون»، تأتى بنية القرار Structure، التى يحددها فى السياق السياسى والاقتصادى للمعركة أو العمل الإرهابى، وأخيراً تأتى المرحلة الثالثة Superstructure، حيث دور الأيديولوجيا والقيم.
يقودنا هذا إلى خلاصة جديدة تفرض التركيز على الأسباب المصلحية المباشرة وموارد العنف المادية قبل الاهتمام بالاعتبارات القيمية والأيديولوجية فى تحليل دوافع الإرهاب.
يقول «فرهاد كوسر كافار» مدير الأبحاث فى مدرسة الدراسات العليا فى العلوم الاجتماعية الفرنسية، فى حوار أجرته معه مجلة «عشرون دقيقة» الفرنسية، فى شهر مارس 2017، إن نحو أربعة آلاف أوروبى التحقوا بالجماعات الإرهابية فى الأراضى السورية والعراقية، وإن العدد الأكبر بينهم ذهب لأسباب تتعلق بضغوط يواجهونها فى المجتمعات الغربية، أو بأغراض التقليد وحب المغامرة، أما «الأيديولوجيا فلا تلعب إلا دوراً ثانوياً فى اتخاذ قرار الانضمام إلى الجماعات الإرهابية».
نحن نريد أن نراجع كتب التراث وننقيها من كل ما بها من خرافات وخزعبلات، وأن نصحح الفكر والتعليم الدينيين، لكننا نعلم أن هذا الأمر وحده لن يكون كافياً للقضاء على الإرهاب؛ إذ علينا أن نسلب الإرهابيين ذرائع القتال المادية وأدواته العملية بموازاة المعركة الثقافية.