عادت مصر إلى الساحة من جديد، أصبح لها تأثيرها وقوتها، لم تنكفئ على مشكلاتها وهمومها، لم تغلق الباب على نفسها، لكنها راحت تمد يدها لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، والتحرك وفق استراتيجية واضحة ومحددة، هدفها لملمة الشمل، وتحقيق المصالحات، وحماية الدولة الوطنية فى مواجهة خطر التقسيم. كثيرون فوجئوا بزيارة الوزير خالد فوزى رئيس المخابرات العامة المصرية إلى غزة، واجتماعه بالفصيلين الأساسيين على الساحة الفلسطينية «فتح وحماس»، لإعلان التوصل إلى خطوات مهمة على طريق المصالحة.
لم يكن أحد يصدق حتى هذا الوقت أن الخلاف الحاد الذى استمر لأكثر من عشر سنوات، وتسبب فى تراجع الأوضاع على الساحة الفلسطينية، يمكن أن ينتهى بهذه السهولة، وتطوى صفحة القطيعة إلى غير رجعة.
غير أن الأحداث التى تلت لقاء غزة، أكدت أن النجاح الذى تحقق لم يكن وليد التو أو اللحظة، إنما نتاج جهود ولقاءات ومباحثات جانبية جرت مع الأطراف المعنية كافة، نجحت خلالها المخابرات العامة المصرية، بمتابعة مباشرة من الرئيس عبدالفتاح السيسى، فى إنهاء الأزمة وتهيئة الأوضاع للحل النهائى، كمنطلق لتوحيد الصف وإعادة اللحمة إلى الوحدة الوطنية الفلسطينية.
وعندما التقت فتح وحماس على أرض القاهرة الثلاثاء الماضى وبحضور الوزير خالد فوزى، كان البيان المشترك يتصدر واجهة الأحداث، وقد تضمن حلاً لأهم قضيتين كانتا محل خلاف طيلة السنوات الماضية.
- الأولى: قضية توحيد الضفة وغزة فى إطار كيان واحد وحكومة واحدة، أى العودة مرة أخرى إلى الشرعية الفلسطينية تحت قيادة السلطة الفلسطينية والرئيس المنتخب محمود عباس (أبومازن)، وما يترتب على ذلك من إجراء انتخابات تشريعية ورئاسية فى إطار موحد ومتفق عليه.
- الثانية: إنهاء أزمة «المعابر» مع مصر والكيان الصهيونى، بتولى حرس الرئاسة الفلسطينية هذه المهمة التى طالما عارضتها حركة حماس فى أوقات سابقة.
لم يقتصر الأمر على ذلك، بل إن مصر قررت الدعوة إلى مؤتمر شامل فى 21 نوفمبر المقبل بحضور جميع الفصائل المعنية على الساحة الفلسطينية للاتفاق على خطة عمل للتحرك فى إطار إيجاد تسوية عادلة للقضية الفلسطينية، وإنهاء معاناة الشعب الفلسطينى.
لم يقتصر الأمر على ذلك، بل امتد إلى الساحة السورية، حيث جرى الاتفاق بين ثلاثة من الفصائل المسلحة، وهى: جيش الإسلام وجيش أبابيل، وأكناف بيت المقدس، وقد صدر بيان مشترك يؤكد الالتزام بمقررات القاهرة لتحقيق السلام على الأرض السورية، استكمالاً لجهود أخرى كانت مصر قد توصلت عبرها إلى وقف إطلاق النار فى «الغوطة» وغيرها من المناطق السورية.
ولا يمكن فى هذا الإطار إغفال الجهد المصرى الذى يبذل تحت قيادة الفريق محمود حجازى رئيس الأركان بتحقيق التوافق والمصالحة على الأرض الليبية بين الحكومتين المتعارضتين وبين مجلس النواب والمجلس الرئاسى.
لقد نجحت مصر فى هذا الإطار فى وضع الثوابت الأساسية التى اتفق حولها الفرقاء على الساحة الليبية، ومنها وحدة الشعب والأرض، وشرعية مجلس النواب الحالى برئاسة عقيلة صالح، والجيش الليبى، الذى يتولى قيادته المشير خليفة حفتر.
إننى لا أريد أن أعدد الأدوار التى تبنتها مصر عربياً وإقليمياً فى الفترة الماضية، والتى أثمرت اتفاقات وإطارات للتحرك، ومواجهات للقوى الإقليمية والدولية وبعض أعوانها على الساحة العربية التى تستهدف تمزيق الصف وتفتيت الدولة، ولكننى أتوقف هنا أمام عدد من الملاحظات المهمة:
- إن التحرك المصرى لإنهاء الخلافات على الساحة العربية وتوحيد الصفوف يستهدف، ضمن ما يستهدف، قطع الطريق على مخطط الشرق الأوسط الجديد الذى يستهدف نشر الفوضى، وتفتيت الأوطان، وتمزيق الشعوب إلى قوى وفصائل متناحرة.
- إن الخطة الاستراتيجية المصرية تنطلق من حرص يقينى على كيان «الدولة الوطنية» فى العالم العربى، تلك الدولة التى أكد الرئيس السيسى فى خطابه الأخير أمام الأمم المتحدة على ضرورة حمايتها باعتبارها الطريق إلى الإصلاح وحماية الأمن والاستقرار، وأن أجهزة الدولة المصرية ومؤسساتها المختلفة كانت واعية بأهمية هذه الرؤية، باعتبارها الطريق الوحيد للتصدى للمخطط التآمرى على المنطقة، والذى يستهدف ضمن ما يستهدف حصار مصر وتهديد أمنها الاستراتيجى.
- تميزت التحركات المصرية بقدر كبير من الشفافية وتجاوز الأزمات والخلافات، والتباينات الأيديولوجية، ووضعت أمامها هدفاً واحداً ووحيداً، وهو حماية أمن الدولة الوطنية وحماية الأمن القومى العربى، من هنا تحقق النجاح فى جمع المتناقضات على مائدة واحدة لإنهاء الأزمات التى باتت تهدد كيان الدولة الوطنية ذاتها.
- إن نجاح مصر فى هذه الجهود، والذى كان محل تقدير عربى وإقليمى ودولى، يؤكد أن الدولة المصرية تجاوزت أزمتها الذاتية ومشكلاتها الأمنية، وراحت تمارس دورها على الساحة العربية، لتحقيق المصالحات أولاً، وتحرير العواصم العربية وحمايتها.
لقد سبق للرئيس عبدالفتاح السيسى أن أطلق رؤيته الاستراتيجية لحماية الأمن القومى العربى، منذ كان وزيراً للدفاع، وتحديداً بعد ثورة الثلاثين من يونيو، عندما صرح بهذه الرؤية فى أكثر من لقاء، بل كان من الأصوات القليلة التى تصدت منذ عام 2014 لمخطط التفتيت فى سوريا وفلسطين وليبيا والعراق، وأكد وحدة الشعب والأرض، ورفض التدخل فى الشئون الداخلية لهذه البلدان.
لقد وجدت هذه الرؤية طريقها إلى أرض الواقع من خلال الأدوار المتتالية التى تقوم بها مؤسسات الدولة المصرية وتحديداً القوات المسلحة والمخابرات العامة والخارجية، فى إطار تنسيقى مشترك أثمر فى نهاية الأمر تحقيق هذه النجاحات التى خرجت من إطار المباحثات السرية إلى العلن فى صورة قرارات واتفاقات.
لقد أيقن الكثيرون أن استراتيجية المواجهة المعاكسة التى تبنتها مصر فى مواجهة مخطط الشرق الأوسط الجديد حققت نجاحات غير متوقعة، ووضعت آليات للمواجهة، هدفها الأول توحيد الصف الوطنى، ثم توحيد الصف العربى فى إطار خطة توظف فيها قوى الدولة الشاملة فى الأقطار العربية كافة لحماية الأمن القومى العربى.
لقد انطلقت مصر فى تحقيق أهدافها من إيمان حقيقى هدفه حماية الأمة ومواجهة أطراف المؤامرة عليها، عبر آليات الحلول السلمية وثقلها التاريخى على الساحة العربية، وهو ما حقق، ما كان مستحيلاً حتى الأمس القريب.