يطيب لى أن أقول لى ولكم إننا لم نتعلم شيئاً مما حدث بعد ثورة يناير 2011.. فقد صنعنا المعجزة مرة أخرى.. وسوف نفسدها من جديد..!
ضربنا الأرض بأقدامنا مرتين، فاهتز العالم.. ثم أهلنا التراب فوق رؤوسنا، فتعجب العالم.. وفى المرتين ينظر الآخر إلينا، ويقول لنفسه: أىُّ شعب هذا الذى تخرج نساؤه قبل رجاله فى مواجهة الرصاص، يغادرون بيوتهم دون اتفاق، ولا يعودون إلا بـ«رأس الحاكم»؟!. لا تمر أيام حتى يقول الناس لبعضهم البعض: ماذا يفعل هؤلاء ببلدهم.. بوطنهم؟!.. كيف «يمزقونه أشلاء» على الأرصفة.. لماذا يتشاجرون على الغنائم، رغم أن النصر لم يكتمل.. أين كانت هذه الكراهية، ومن أى مساحة خرجت شهوة الانتقام والتصفية؟!
يقولون ذلك.. ولهم كل الحق.. إذ لم يحقق أحد على وجه الأرض إنجازاً بينما ينظر إلى الوراء، ولم تسجل أمة خطوة نحو التقدم وهى أسيرة الماضى.. أما نحن فلا نكمل مشواراً، ولا نقطع طريقاً لنهايته.. هكذا اعتدنا منذ بدء التاريخ.. نبدأ المشهد بخطوة مزلزلة ثم ننظر إلى الوراء فنسقط على الأرض.. نبرق فى السماء كشهاب لامع ثم سرعان ما نخفت، فتذرونا الرياح رماداً منثوراً.. وفى كل مرة نصرخ بأننا تعلمنا من الماضى، غير أننا نبدع ونبتكر فى ارتكاب نفس أخطاء الماضى..!
ربما يرى البعض أن كلماتى مؤلمة.. ولكنها الحقيقة، وإلا فليأتِ أحدُكم بإنجاز واحد حققناه لآخره، أو مشوار أكملناه لنهايته.. وكأن المصرى يسرى فى عروقه «جين» عبقرى يصنع المستحيل و«جين» آخر يدفن المعجزة، ليعود إلى سيرته الأولى..!
بعد ثورة يناير تشرذمنا، رغم أن الدم كان لا يزال ساخناً فى الميادين التى جمعتنا.. راح كل منا يبحث عن مكاسبه ومغانمه على جثث الشهداء.. غادرت روح الثورة والأمل نفوسنا، وامتلأنا بعواصف الانتقام والإقصاء والنفى.. عدنا لبيوتنا، ولم نعد لماكينات المصانع.. ففى البيوت بإمكاننا التلذذ بمتابعة حفلات «الذبح» على الهواء مباشرة.. فلا آذان فى مصر تحب صوت ماكينات الإنتاج..! خطف «الإخوان» مصر، ونحن منهمكون فى «التلذذ» والاستمتاع بالانتقام.. صرخنا فجأة: «البلد راح فين؟!».. وبعد ثورة 30 يونيو فعلناها مرة أخرى، رغم أننا ملأنا الدنيا ضجيجاً: لقد تعلمنا الدرس، ولن نكررها من جديد..!
نحن الآن فى طور «اللذة».. عدنا إلى بيوتنا متحلقين حول «المقاصل».. رائحة الدم أفضل فى أنوفنا من العطر.. الإقصاء والإبادة والانتقام شعار المرحلة بدلاً من البناء والتنمية والتقدم.. لا أحد يتكلم أو يسعى إلى وضع مصر على طريق المستقبل، بينما نصرخ جميعاً بحتمية اجتثاث الإخوان وأنصارهم من الأرض: اقتلوهم.. ادفنوهم أحياء.. لا مكان لهم بيننا حتى لو كانوا مئات الآلاف.. فلا وقت لدينا ولا رغبة فى إعادة تأهيلهم ولا دمجهم فى المجتمع الحديث، وكأن الحلول كلها باتت بطعم الدم..!
لم يعد أحد منا يجهد نفسه فى التفكير لرسم خطوط فاصلة بين الإرهاب والعنف.. والاختلاف.. تلاشت قدرتنا على تسمية الأشياء بأسمائها الحقيقية.. ومعها تلاشت روح البناء، وسادت نوازع الهدم..!
تعرفون أننى كنت وما زلت من أشد معارضى «الإخوان».. عارضت فكرهم ومنهجهم حين كانوا «جماعة» وحسب، وعارضت سياساتهم عندما حكموا.. فظلموا.. فأفسدوا. غير أننى أقف الآن ضد إقصائهم من الوطن، تماماً مثلما حاربت إقصاءهم للآخر فى فترة حكمهم.. المبادئ ليست قطعة صلصال نعجنها ونشكّلها وفقاً لأهوائنا ومصالحنا.. من قتل وحرّض وأفسد، سنأخذه من يده بكرامة إلى ساحة القضاء.. لا تسامح مع المجرمين فى حق الشعب.. من يعيث فى سيناء إرهاباً لا بد أن نمحوه من الوجود.. أما مئات الآلاف الذين لم يتورطوا فى العنف، فليس عدلاً أن نحاسبهم على جرائم قادتهم.. وليس مفيداً لمصر أن ننفيهم من الأرض، أو نسحلهم فى الشوارع أو ننزع عنهم صفة المواطنة..!
صدقونى.. شباب الإخوان الذين تعرّضوا لغسيل دماغ على مدى سنوات طويلة من غياب الدولة ومؤسسات العلم والتعليم والثقافة.. لن ينصلح حالهم إلا بـ«تطهير» الدماغ.. نفس الدماغ من أفكار «الجماعة»..!