سرقوها فى وضح النهار قبل أن تجف دماء الشهداء وجلسوا فى مبانيهم المحصّنة يقتسمون غنائمها.. إخوان انتهازيون ابتلعوا طعم السلطة مبكراً.. رفضوا اقتسامها مع القوى المدنية باختلاف تياراتها، واختاروا المغالبة.. رفعوا شعاراً مضللاً «مشاركة لا مغالبة»، ظنوا أنهم خدعوا الشعب بثواره وقواه الإصلاحية، وما خدعوا إلا أنفسهم.. حازوا السلطتين التنفيذية والتشريعية، وجاروا على سلطة القضاء، ثم ألهبوا ظهور الجماهير التى أوصلتهم إلى الحكم بالسياط، وفقأوا أعين المحتجين بالخرطوش.. ربما كان شريكهم «المجلس العسكرى» أكثر دهاءً وصبراً.. تحرك فى الوقت المناسب فساند الثورة ليُجبر الرئيس حسنى مبارك على التخلى عن الحكم، أو هكذا بدا الأمر.. ترك للجماعة حبل الطموح السياسى على الغارب حتى خنقوا به رقابهم وهم جالسون على مقاعدهم، فثار عليهم المصريون ثورتهم الثانية فى 30 يونيو قبل أن يبدأوا عامهم الثانى فى الحكم، رغم أن مرشدهم «المسكين» صرّح بأنهم سيحكمون مصر 500 عام.
فريق آخر ظل يعمل منذ اللحظات الأولى للسيطرة على ثورة يناير، فقبل أيام من تدخّل قيادة القوات المسلحة المباشر لصالح موجة التغيير، وإعلان «مبارك» تخليه عن رئاسة الجمهورية، كان الجنرال عمر سليمان يضع خطة «تبريد الثورة»، لكن القدر لم يُمهله ليرى نتائجها، فرحل فى ظروف «كافكاوية» غامضة بنهايات لم تكتمل بعد نسبة إلى روايات الأديب التشيكى - الألمانى فرانز كافكا، مثل كواليس الثورة نفسها التى لم يُفصح أحد عنها حتى الآن، رغم انقضاء 7 سنين على اندلاعها.
هكذا مرّت 7 سنوات عجاف كسنوات ضوئية منذ اندلاع 25 يناير، تضمّنت فى منتصف الطريق ثورة أخرى «30 يونيو»، مرّ العام تلو العام.. ونجحت خطة «التبريد» نجاحاً لا مثيل له، ليتولى فريق آخر ممن ناصروها فى البداية شيطنتها.. بعضهم سمّاها «لعنة يناير»، والآخر قال «25 خساير»، ومنهم من اعتبرها «خراء»، وفى أحسن الأحوال «انتفاضة» أو «هوجة مثل هوجة عرابى»، ومع الوقت تحوّلت 25 يناير إلى حرف «الكيه» فى أول بعض الكلمات الإنجليزية يُكتب دائماً، لكن لا ينطق به أحد.
جاء 2018 بعد أن شهدت مصر أحداثاً تكفى لإقناع كل عاقل بأن «هبة النيل» لم تشهد لا ثورة أولى ولا ثورة ثانية، فقد حدث ما كان يخشاه المفكر القومى محمد عبدالحكم دياب، الذى قال أثناء فعاليات يناير: «أخشى أن تكون مصر بلد الثورات المجهضة»، كل هذا صحيح مائة فى المائة، لكن الأصح منه أن الشعب المصرى نفسه يحتاج إلى ثورة حقيقية على نفسه.
نحن نحتاج فعلاً إلى تغيير جذرى ينقلنا من صراع الثنائيات البغيض إلى «واحة التعدّدية والإبداع وتقديس العمل والالتزام بالأخلاق النبيلة وليس الاكتفاء بالطقوس الدينية أو العبادات وحدها».
نحتاج إلى ثورة تخلصنا من أمراض «التعالى والغرور والأنوية».. وتعيدنا إلى قيم التواضع وروح العمل الجماعى.. نبرأ بعدها من ثقافة النميمة والقدح فى الآخرين.. ونزرع ثقافة «اذكروا محاسن رفقائكم فى الحياة.. فى العمل.. فى البيت.. فى المدرسة.. فى الجامعة، وحتى فى الأوتوبيس والميكروباص.. والجامع والكنيسة!».
ما حدث لنا يتجاوز «ثورة مجهضة أو ثورتين».. ما حدث للمصريين «الشعب والدولة» كارثى بكل المقاييس الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، عُدنا إلى ما يشبه عصور الانحطاط التاريخية، لقد أصبح العنف هو اللغة السهلة التى يجيدها معظم المصريين، العنف والتسلط يزحف على عقولنا وقلوبنا من كل فج عميق، لقد وصل الأمر إلى حدوث مشاحنات شخصية حادة بين المصلين داخل بيوت الله!
الثورة الثالثة التى تتطلب قيادة جماعية واعية تفجّرها وتترجم أهدافها إلى سياسات وتشريعات صالحة للتطبيق العملى، إذا ما تفجّرت فى أوساط المجتمع المصرى، فلن يحتاج إلى ثورات أخرى، لأنها ستكون أم الثورات وآخرها.