رحل الشاعر حلمى سالم فى زمن النثر الردئ، كان مدهشاً فى تعامله مع المرض، كان لا يصارعه ولكنه كان يلعب معه، فى خضم هذه المراوغة مع السرطان وجدته يحدثنى عن توقف مجلة «أدب ونقد» لظروف مادية، تعجبت من هذا الرجل الذى يحارب على جبهة الثقافة فى مناخ كاره لها مصادر لقبيلة مبدعيها وفنانيها، ظل يصارع حتى صدرت المجلة مرة ثانية، وعندما كتبت عن هذا الموضوع كتبت يائساً من حل المشكلة، ولم أتخيل أن حلمى يمتلك كل هذا الصبر والدأب والإصرار لتعود هذه المجلة كزاد ثقافى فى صحراء ثقافتنا التى صارت قاحلة.
عندما هاجمه السرطان كنت أول من استشارنى وقتها ونصحته بالذهاب لصديقى الأستاذ النابه د. حمدى عبدالعظيم الذى حدد خطة العلاج مبدئياً، ولكن كانت المشكلة فى الجهة التى ستتولى علاجه، وقع الفريق سامى عنان قرار العلاج وأجريت له جراحة استئصال الورم السرطانى من الرئة بواسطة الطاقم الطبى للمستشفى العسكرى، أخبرنى حلمى بعدها أن الأمور زى الفل، كان رابط الجأش متماسكاً يتعامل مع المرض بصوفية ويتغلب عليه بالشعر الذى كان يتنفسه ويسرى فى نخاعه، أحسست أنه ينتصر على خلايا السرطان المجنونة بجنون الشعر المشروع وتمرده المحلق.
كنت أرى فى تجربته الشعرية مع المرض سواء جلطة المخ أو سرطان الرئة ثراء ونافذة شعرية جديدة ضن وبخل الشعر الحديث بها نتيجة عدم تعودنا على المكاشفة والصراحة، كانت أهم التجارب التى تحدثت عن المرض شعرياً قبل حلمى سالم تجربة العراقى الرائد بدر شاكر السياب وشاعرنا الجميل أمل دنقل، الأول مع الشلل والثانى مع سرطان الخصية، ما زلت أتذكر أبيات السياب عن تجربته على سرير مستشفى الكويت وهو يقول قعيداً:
وبقيت أدور
حول الطاحونة من ألمى
ثوراً معصوباً كالصخرة هيهات تثور
والناس تسير إلى القمم
لكنى أعجز عن سير - ويلاه - على قدمى
وسريرى سجنى تابوتى منفاى إلى الألم
وإلى العدم
وأتذكر دنقل وهو يقول من الغرفة رقم 8 بمعهد السرطان:
فى غُرَفِ العمليات،
كان نِقابُ الأطباءِ أبيضَ،
لونُ المعاطفِ أبيض،
تاجُ الحكيماتِ أبيضَ، أرديةُ الراهبات،
الملاءاتُ،
لونُ الأسرّةِ، أربطةُ الشاشِ والقُطْن،
قرصُ المنوِّمِ، أُنبوبةُ المَصْلِ،
كوبُ اللبن،
كلُّ هذا يُشيعُ بِقَلْبى الوَهَنْ.
كلُّ هذا البياضِ يذكِّرنى بالكَفَنْ!
فلماذا إذا متُّ..
يأتى المعزونَ مُتَّشِحينَ..
بشاراتِ لونِ الحِدادْ؟
هل لأنّ السوادْ..
هو لونُ النجاة من الموتِ،
لونُ التميمةِ ضدّ.. الزمنْ
وها أنا أستمع إلى صوتك ياحلمى وأنت تنشد مدائح جلطة المخ أو معجزة التنفس:
«القدم التى دبت طوال عامين/ من ميدان الرماية/ إلى التجمع الخامس/ كيف لانت فلا تقوى على السعى بين سجادة ومخدة؟»... وتنشد...
«الفقراء ملح الأرض»/ هكذا فى لمح سحابة/ انضم الملح إلى الأعداء». وتنشد...
«أجنحة
هذا هو الفُصُّ
الذى يحملُ تكاثرَ الخَلاَيا،
ويوزِّعها على المُعْوَزينَ.
قلتُ للخلايا:
ألهاكم التكاثرُ.
أطلّتُ من الغبشةِ وجوهُ آبائى:
عبدالمطلب، منعم، موافى، الشايب، عنتر، سليمان، اليمانى
يفردون أجنحةً ملوّنةً
لكى أطيرَ بها إلى ماسبيرو،
حيث دبابةٌ مرّتْ
على بطنِ الفتى،
وقتَ أن لمعَ الصليبُ
فوق الصّدر»