من شركة صغيرة في سكوتس فالي بولاية كاليفورنيا أسسها الصديقان ريد هاستينجز ومارك راندولوف لتوزيع الفيديو تحت الطلب بعام 1997 إلى شركة أكبر في مجال توصيل الفيديو تحت الطلب وبيع الأسطوانات المدمجة وصولا إلى كونها حاليا أكبر شركة لصناعة الأفلام والإعلام والترفيه عبر الإنترنت في العالم.
تلك هى نتفليكس التي يبلغ رأسمالها السوقي 12 مليار دولار والمتوقع لها أن تكون الشركة الأولى عالميا في صناعة الإعلام والترفيه بعام 2020.
تجربة نتفليكس تجربة رائدة تستحق الوقوف والتأمل، عادة لا اتطرق بمقالاتي إلى موضوعات تتعلق بالإعلام رغم أنه تخصصي وأساس دراستي ولكن ما فعلته نتفليكس في صناعة الإعلام وفي هذه المهنة يستحق الدراسة والبحث والتعلم منه.
نتفليكس أدارت ظهرها للإعلام التقليدي بكافة وسائله..
منذ 2007 وحتى الآن ركزت نتفليكس على الدعم اللوجسيتي لخدماتها الالكترونية بافتتاح مكاتب لها في كندا وأمريكا اللاتينية وكوريا واليابان وبعض الدول الأوروبية وطورت خدماتها لتغطي كافة دول العالم واعتمدت على فكرة الفيديو تحت الطلب ولكن بصورة الكترونية أو إعادة بث محتوى تليفزيوني تم عرضه مسبقا عبر إحدى القنوات التقليدية في مقابل مادي لهذه القناة لشراء حق بثه مرة أخرى حصريا عبر موقع نتفليكس.
ومع ازدياد الطلب الالكتروني على محتوى نتفليكس المعروض سلفا بدأت الشركة في إنتاج مسلسلات وأفلام وبرامج خاصة بها منذ 2013 فيما يُعرف ب Netflix Originals، ورغم حجم نجاحاتها المتصاعد لم تفكر في عقد أي شراكة أو توأمة مع إحدى القنوات أو المحطات التليفزيونية العملاقة.
لم ينظر القائمون على نتفليكس إلى محتوى القنوات التليفزيونية الأمريكية أو الأوروبية ولم يحاولوا تقليدها بل قدموا محتوى مختلف مصمم خصيصا لكل دولة أو مجموعة دول ناطقة بنفس اللغة على حدة إلى جانب بعض الإنتاجات التي تلقى الطلب الشديد عالميا ولاسيما في مجال الدراما الأمريكية.
نتفليكس تستفيد من تجارب الإعلام التقليدي وسقطاته..
تعاملت نتفليكس بذكاء مع تجربة الإعلام التقليدي مع القنوات المدفوعة أو ما يُعرف في عالمنا العربي ب"الباقات والتشفير" وقدمت هى الأخرى نظام الباقات الالكترونية لمشاهدة برامج أو أفلام أو مواد تليفزيونية معينة مع عمل عروض خاصة من آن لآخر. ورغم شكوى البعض من ارتفاع تكلفة الاشتراك بموقع نتفليكس خاصة في العالم العربي لفرق سعر العملة غير أن مستخدمي نتفليكس في تزايد مستمر.
المذهل أن نتفليكس لم تقع في فخ الاحتكار أو عدم احترام المنافسين، إذ أن نتفليكس تكاد تكون الشركة الوحيدة بعالم الإعلام التي تروج لمحتوى منافسيها وتعيد عرضه عبر منصتها في مقابل مادي تدفعه للشركة أو القناة المنتجة أو حتى بالتزامن مع عرضه في التليفزيون.
وقد جاءت فترة في إعلامنا المصري كنا نبيع فيه الحقوق الحصرية لحفلات أم كلثوم وعبد الحليم وبعض أفلامنا السينمائية النادرة لإحدى الشركات السعودية بدلا من الحفاظ على مكتبتنا الفنية والإعلامية التي تجسد إرثنا الثقافي والتراثي.
والآن تحذو الشركات الأمريكية والأوروبية نفس حذونا الخاطئ آنذاك الذي تستغله نتفليكس بذكاء فتشتري حقوق بث بعض المواد التليفزيونية النادرة على اختلاف أنواعها لتضعه بمكتبتها حيث سيأتي يوم قريب تصبح فيه نتفليكس أكبر مكتبة إعلامية وفنية الكترونية بالعالم.
الإنتاج متعدد اللغات وتطبيق استراتيجيات القنوات الموجهة..
كي تستميل أحدهم لابد وأن تتحدث لغته وتنتهج فكره أو تضع نفسك محله كما هو الحال بعلم التسويق والإعلام، فعلت نتفليكس ذلك فبدأت في إنتاج مواد تليفزيونية ودرامية بلغات مختلفة وبنجوم الإعلام والدراما في كل دولة تتوجه إليها فقدمت مواد تليفزيونية بالفرنسية والبرتغالية والإسبانية والألمانية وغيرهم لتطبق فكرة القنوات الموجهة بحذافيرها وبطريقة أكثر احترافية.التهديد والمنافسة والحرب الالكترونية القادمة..
قد يعتقد البعض خطأ أن نتفليكس تخشى المواجهة من قِبل وسائل الإعلام التقليدية أو من شركات الإنتاج في هوليوود الحقيقة على العكس تماما، حيث أجبرت نتفليكس شركات وقنوات شهيرة مثل: FX، CBS ، CW، HBO على إطلاق منصات الكترونية تنتج محتوى خاصا لمستخدمي الإنترنت بمقابل مادي بعيدا عن جمهور الشاشات التقليدية وبميزانيات مستقلة وضخمة.
ولكن المنافسة الضارية الفعلية التي تواجهها نتفليكس تأتيها من شركات بحجم: Amazon , Apple hulu, الذين يقدمون نفس الخدمات التليفزيونية الالكترونية التي تقدمها نتفليكس والحقيقة إن هذه المنافسة لصالح المشاهد الذي يجد تنوعا كبيرا في المحتوى الالكتروني وبسعر زهيد نظرا لتزايد الطلب على هذه الشبكات.
أين الوطن العربي من نتفليكس وإنتاجها؟؟
يشكو معظم مستخدمي نتفليكس في العالم العربي عامة والمصري خاصة من قلة الإنتاج التليفزيوني المقدم بالعربية فأغلب مستخدميها العرب يتابعون إنتاجها الغربي خاصة الدرامي. والحقيقة إن نتفليكس حتى الآن لم تجد المعادلة الصحيحة التي تدخل بها إلى قلب المشاهد العربي والمصري الناقد لكل شئ، ولكن هذا لا يعني أنها لن تصل.
فاعتماد نتفليكس على شراء الأفلام الدرامية المصرية وإعادة عرضها لن ينفعها أمام جمهور لديه القراصنة الذين يرفعون الأفلام قبل صدورها!
كذلك اعتماد نتفليكس على تمويل إنتاج بعض الأفلام التسجيلية العربية وعرضها على منصتها لن يساعدها على الانتشار خاصة وأن جمهور الأفلام التسجيلية بالوطن العربي محدود نسبيا. فما الحل الذي تحتاجه نتفليكس لاختراق سوق مستخدمي الإنترنت العرب؟
في اعتقادي الشخصي سوف تبدأ نتفليكس بالبحث عن مشاهير السوشال ميديا في العالم العربي وستقوم بإنتاج برامج لهم لجذب شريحة الشباب ثم تعمد إلى جذب بعض وجوه الإعلام والفن بالعالم العربي لإنتاج بعض الأفلام والمسلسلات العربية والسورية واللبنانية والخليجية الخاصة لتزيد من نسب المشتركين بها.
وقد تشتري قريبا إحدى الصفحات العربية الشهيرة عبر موقع (فيس بوك) لتضمن ولاء أكبر كم من الشباب العربي مع تغيير طفيف لبعض البرامج وإعادة بثها عبر موقعها الالكتروني كذلك السماح للمعلنين العرب باستغلال منصتها لتعويض نفقاتها واستغلال حقيقة أن الشعوب العربية شعوب استهلاكية للطعام والإعلام.
ولا استبعد أن تفكر نتفليكس جديا في شراء حقوق بث بعض المباريات ودوريات كرة القدم عبر منصتها لاستمالة قلوب الشباب العربي.
ماذا نستفيد من كل ذلك؟
السؤال الذي تجده يلوح بذهنك الآن عقب قراءة ما سبق ما الذي يعنينا في هذا كله؟ الواقع يعنينا الكثير، وأول ما يهمنا هو ضرورة أن يدرك متخذو القرار الإعلامي في عالمنا العربي والمصري أن الإعلام التقليدي خسائره المادية الآن تفوق مكاسبه وأن الغلبة للإعلام الالكتروني وأن الإعلام الالكتروني هو من يُشكِل الرأي العام الآن ويتحكم في مزاجه واتجاهاته.
وأننا بحاجة إلى إعلام الكتروني قوي يواجه الغزو الصاعد من جانب نتفليكس ومثيلاتها كيلا نقع في فخ آخر يشبه فترة أوائل الألفية حينما شكلت الفضائيات الموجهة عقولنا وأفكارنا ونظرتنا إزاء القضايا المحلية قبل الدولية بصورة لا يُحمد عقباها.
وثاني ما يعنينا هو سرعة إطلاق منصات الكترونية والاستثمار بها كي تخاطب الشباب وتقدم لهم محتوى يلائم احتياجاتهم وتطلعاتهم ويشبع فضولهم ويلاقي اهتماماتهم ولا يعيد أخطاء الإعلام التقليدي وخطابه المستهلك على مستوى برامجه ومواده.
وأخيرا إن كان مالكو المؤسسات الإعلامية التقليدية ينتظرون من قنواتهم كعكة الإعلانات أو ما تبقى منها فالكعكة سوف تذهب كاملة إلى نتفليكس ولمن على شاكلتها قريبا..
فمن لا يعد العُدة لمواجهة المستقبل لا يستحق أن يعيش به..
نتفليكس لم تعد هذه العدة فحسب بل صنعت المستقبل وعادت إلى الحاضر الإعلامي كما لو كانت قادمة من المستقبل.