وسط ضجيج لا يتوقف وصخب يتصاعد بشكل لا أكاد أتابع تفاصيله، رغم أننى أعرف اتجاهاته وتوجهاته ومراميه، بل لا أبالغ إذا أعلنت أن ذلك الضجيج وذاك الصخب يخرجان من بين الحنايا والضلوع، أراه أمام عينى، فأنا أول الناظرين وأول المتابعين، ولن أكون يوماً من المستفيدين.
فكيف أستفيد أو أحصل على مغانم من صخب الألم وضجيج الشجن، ربما أنظر لنفسى على أننى فارس وسط معركة حامية الوطيس كل من يوجد على أرض المعركة عليه أن يسهم ويبذل الغالى والنفيس من أجل هدف واحد أسمى وأرفع، هذا الهدف هو ببساطة أن يبقى
«الوطن» حضناً دافئاً يحيطنا ويحتوينا باحتضاننا نحن لصخبه، واحتوائنا نحن لضجيجه، الوطن الغالى والذى يعيش فينا حقاً وصدقاً، نحن نتنفسه شهيقاً ولا نقوى على إخراجه زفيراً، هو السمو وهو العلو، هو الصمت الذى ننشد إنطاقه وهو السجين الذى نرجو إطلاقه، هو الماضى العتيق الذى به «نتحلى»، والحاضر الأنيق الذى به «نتخلى»، وهو المستقبل المأمول الذى به «نتجلى»، عندما يكون لديك وطن كهذا، فماذا عساك أن تفعل سوى بذل التضحية -كل التضحية-، والفداء -كل الفداء- نتحمل كل المتاعب والمصاعب والآلام المتضافرة بكل الحب والإيمان أنه يستحق هذا وأكثر من هذا، فالوطن هو الوعاء الجامع الذى به نتدثر ونشعر بالدفء الذى لا يعتريه برودة حتى لو كنا وسط ثلوج وزمهرير، هو الغطاء الواقى من الكسر، هو ذلك الشعور الذى يسرى فى أوصالنا متدفقاً هامساً لنا بأننا أحياء، عندما يكون وطننا فى لحظات ضيق مشوب بقلق وحذر وترقب ماذا نفعل؟ أنجلس القرفصاء ننظر ونحلل ونستنتج ونربط ونفك، محاولين الإجابة عن أسئلة وتساؤلات غير موجودة أو غير مجدية!! أم نضع رؤوسنا فى الرمال وننكر حقائق ووقائع هى موجودة، وكوننا لا نراها أو لا نريد أن نراها، فنحاول أن نقنع أنفسنا بأنها غير موجودة بالمرة، الوطن ليس فى حاجة لنا!! نعم، هذه هى الحقيقة المجردة، لكن الحق المجرد أننا نحن الذين فى حاجة ماسة إليه.. إلى وجوده.. إلى ألقه وتألقه.. إلى عنفوانه.. إلى صعوده.. إلى توهّجه.. إلى استمراره.. إلى بقائه.. إلى قوته.. إلى حمايته.
ضجيج الوطن وصخبه حياة لنا، بل هى الحياة بكل تفاصيلها ومفرداتها وعباراتها، مثلما تتلذذ الأرض بملامسة أقدام الأوفياء، فالوطن يتلذذ بصخبنا وضجيجنا، آهاتنا وأنّاتنا ترهقه، لكنها لا تزعجه.
نحن نصنع ذلك بجهل أو بغير قصد لكننا نفعله، والآن أسأل نفسى بعد أن أيقنت أننا نحتاج الوطن أكثر كثيراً من حاجته إلينا، فهل نفعل ما نفعل لوجه الوطن حقاً؟ أم أننا نقوم بتمثيل دور المحب لوطنه العاشق لترابه ونجيد فن التمثيل؟ هل نحن صادقون مجرّدون؟ هل نحن حقاً محبون وفقط ولا ننتظر المقابل؟ أتحدث هنا عن نفسى، وأثق فيما أقول وأفعل بأننى لا أجيد فنون التمثيل، وربما هذه قصة أخرى، لذلك يجب ألا أنتظر رضا واستحسان وإشادة الآخرين مهما كانت مواقعهم، فهم وأنا خدام فى باحة وساحة الوطن، كلنا عليه أن يعمل دون انتظار المقابل، وكلنا عليه أن يحب دون شروط.. أية شروط.