«تجريف مصر».. تلك العبارة التى أصبحت تتردد من قبل المحللين لوصف الوضع المؤسف الذى وصلت إليه البلاد على كل الأصعدة، وهم يحددون زمن هذا التجريف بثلاثين أو أربعين عاماً.. فمن جرَّف مصر؟
الإجابة المنطقية أن الذى فعل هذا هو من كان يحكم مصر.. فمن حكم مصر؟
الإجابة المباشرة هى أن مبارك ونظامه هما من حكم تلك الفترة.. أما واقعياً وعملياً فإن نظام مبارك حكم البلاد سياسياً.. وأما فكرياً وثقافياً فالذى حكم مصر هو جماعة الإخوان، ولقد تعاملت السلطة السياسية مع هذه الحقيقة بقدر كبير من البلادة واللامبالاة وأحياناً بتواطؤ ضمنى.
لقد أخذ فكر هذه الجماعة يتسلل ليغزو العقل الجمعى حتى وصل إلى قمة تأثيره وتمكن من الثقافة المصرية بمعناها الأوسع، ويمثل العامل الأخطر فيما يعرف بـ«تجريف مصر»، فهذه الأيديولوجية التى تسعى إلى نموذج من الحكم الفاشى تتبنى منظومة هى بالأساس فى حالة عداء مع الدولة الوطنية وقيم الحداثة والتقدم، وعلى مدى عقود نستطيع أن نرى تأثيرها الكارثى على عدة مستويات.
فعلى المستوى السياسى: كان وجود هذه الجماعة وتوابعها حجر العثرة أمام كل عملية بناء ديمقراطى، منذ أوقفوا بممارساتهم العنيفة الحياة الحزبية فى مصر وكانوا السبب الأساسى لاستدعاء تدخل الجيش فى ١٩٥٢ لإنقاذ البلاد من الفوضى العارمة التى صنعوها، و لم يستطع النظام السياسى الهش وقتها التصدى لهم، مروراً بمحاولة السادات، وصولاً إلى يناير ٢٠١١.. وكان وجود هذه الجماعة وذراعها الإرهابية هو السبب فى تكريس حكم مبارك وخشية القوى السياسية المعارضة له من الضغط لحركة إصلاحية -ربما كانت جنبت البلاد الكثير لو حدثت- خوفاً من سقوط البلاد فى حكم الإخوان، وهو ما حدث بالفعل.
أما على المستوى المعرفى: فقد تغلغل الإخوان فى المؤسسات التعليمية ليتحول المنتج التعليمى -فى نسبة كبيرة منه- إلى أشباه متعلمين يتبنون مفاهيم لا يمكن أن تنتج معرفة حقيقية ولا تمثل طاقة لوطن يسعى للتقدم، لأن إنتاج المعرفة -ببساطة- له شروط موضوعية وفكر الإخوان فى حالة تضاد أساسى مع تلك الشروط كما هو فى حالة تضاد مع كل منظومة التقدم والحداثة.
أما التأثير السلبى الأعمق والأكثر خطورة فقد جاء على المستوى الأخلاقى والاجتماعى: إن أخطر ما فعله الفكر الإخوانى هو «شكلنة» العقيدة الدينية وتفريغها من مضمونها الأخلاقى، إن تركيزهم -الذى لا يخلو من رغبة فى استعراض التمكين- على الشكل وتفريطهم فى القيم الأخلاقية والإنسانية -التى هى جوهر الدين- كان له أسوأ الأثر، فكيف نفسر أن هذا المجتمع الذى كان يتجه بشدة «ظاهريا» للمحافظة على مدى عقود، عندما يرتفع عنه الغطاء الأمنى يظهر هذا القدر المرعب من الانهيار الأخلاقى، ويُصدَم المصريون بكم ونوعية جرائم ما كان أحد يتصور أن تشهد مثلها البلاد، وانحراف فى سلوكيات الشارع.. إن النظرة الدونية للمرأة التى كرستها الذهنية الإخوانية وصلت إلى حد الإهانة فما تتعرض له المرأة فى الشارع وفى وسائل المواصلات هو سُبَّة فى جبين الوطن، كل هذه التأثيرات السلبية كانت بالضرورة -و لا تزال- تمثل عرقلة كاملة لأى محاولة للتقدم ومن ثم لتحقيق نهوض اقتصادى.. إن أى حديث عن «العدالة الاجتماعية» يظل مجرد لغو دون أن نتحول لمجتمع منتج ولن نصبح كذلك دون أن نتخلص من هذا التشويه الذى أصاب ثقافتنا وقيمنا، فباعتبار الوضع الأمنى والحرب على الإرهاب سبباً الآن لغياب السياحة والاستثمارات فماذا بعد انتهائها -وستنتهى قريباً- سيظل سلوك الشارع عائقاً أقوى أمام السياحة والاستثمار أيضاً، ما لم ينضبط ذلك وبسرعة.
وسنظل ندور فى تلك الدائرة المفرغة من المطالبات والمعوقات التى نصنعها نحن بأيدينا.
لنكن صرحاء مع أنفسنا ونجيب عن سؤال: أين كانت مصر منذ خمسين عاماً وأين كانت دول مثل ماليزيا وسنغافورة وكوريا والبرازيل.. بل والصين؟
إن الإجابة محزنة للغاية وعلينا أن نبحث أين أصابنا الخلل وأين أصابوا النجاح.
لقد استطاع المصريون أن ينالوا إعجاب كل شعوب العالم -بصرف النظر عن مواقف الحكومات- بصمودهم وقدرتهم على انتزاع بلدهم من براثن التطرف والإرهاب، والحفاظ على وجود وتماسك أول دولة فى التاريخ بالإنجاز الكبير الذى تحقق فى ٣٠/٦، وبكل الاعتزاز بهذا التاريخ، سيظل «انتفاضة» حتى يتحول إلى تغيير جذرى ينقلنا إلى حالة الحداثة فننطلق ببلادنا إلى مكانها الذى يليق بمهد الحضارة الإنسانية.
وقتها فقط سيذكر التاريخ أن المصريين صنعوا «ثورة».