كان لكل وقت فى نهارات حى المعادى قبل عقود، روائحه وألوانه ولن أقول أصواته، فلم يكن هناك ما يعلو على أصوات جموع الطير التى تسكن أشجار الحى الأخضر أو الذى كان أخضر.. كنت أحب بعد أن أوصل أبنائى إلى المدرسة، أن يلفح وجهى ذلك البخر القادم من الزرع الذى ما زال يحمل بقايا قطرات ندى البكور فى الشوارع الهادئة.. حتى شارع «٩» الذى غنى له عمرو دياب فى فيلم خيرى بشارة الجميل آيس كريم فى جليم، وكان هو الشارع الرئيسى، لم يكن به إلا بضعة محال أو مطاعم صغيرة، تنتمى للحى.. تحمل نكهة الضاحية المستكينة، المتآلفة بفيلاتها وبيوتها الصغيرة ذات الحدائق وشوارعها الغارقة فى الخضرة وميادينها «المحندقة» ومدارسها وناديها.. كان حى المعادى نموذجاً لفكرة الضاحية السكنية المستكينة بامتياز، حتى إن أهله كانوا يحسون اغتراباً بمجرد الخروج إلى طريق الكورنيش، ويشعرون بأنهم «روحوا» بمجرد الوصول إلى مدخل الحى أمام كازينو «الجود شوط» ونادى اليخت.. لا أريد الانخراط فى وصف حالة السلام والألفة وسلوكيات أبناء الحى، وذلك الشعور بالطمأنينة والمودة الذى يبدو الآن كحلم.. حلم راح يقاوم حتى السبعينات والثمانينات وربما بداية التسعينات، بعدها انهارت المقاومة.. تكالب المقاولون والموظفون والفساد وتنافسوا فى هدم الفيلات والقصور واقتلاع الأشجار وتحويل الحدائق إلى مقالب زبالة.. جارى العائد من هجرته ليستقر نزل جرى فى صباح أحد الأيام بالتريننج، وقرر أن يوقف مذبحة أشجار على الرصيف المقابل، ولأنه راجع متحمس، تقريباً احتضن الشجرة المعمرة وقال اللى هيقرب منها هياخد روحى معاها! ولم يكتف بذلك بل أمسك بالتليفون وراح يصرخ فى المهندسة المسئولة عن الزراعة فى الحى وأظن أنه وصل لرئيس الحى ودخل معه فى خناقة.. انتهت بأن المسئول قال له إنت مش عارف بتكلم مين؟! ولكنه صمد وردها له قائلاً وإنت مش عارف بتكلم مين؟ وأنقذ الشجرة!
كانت هناك قوانين تمنع الهدم ومفروض أنها تحمى تراثاً معمارياً، لكن منذ متى كان بإمكان الشرعية أن تقف أمام الفساد، وسعار الفلوس.. أتذكر يوم بدأ أول محل بيتزا من محلات «السلاسل» فى فتح أبوابه أمام محطة مترو المعادى.. كان حدثاً، أما حين شرعوا فى بناء أول مول على مقربة من كلية فيكتوريا، بعد شريط الكرة الحديد، فكان انقلاباً! مع السنوات الأخيرة دخلت المعادى مرحلة «الاجتياح» حوصر الحى بحزام من «العشوائيات» الضاربة فيها، فى كل ما يمكن تخيله من آفات وأضيف لها مساحات من التوسعات الخرسانية والأبراج وحتى وصلنا إلى أن أصبح ما تبقى من شوارع فى المعادى القديمة وميادينها، مرتعاً وأمكنة مفضلة لضرب الحقن والمخدرات. وليس فى الأمر مبالغة. سوف أضرب مثالاً.. على مقربة من بيتى ميدان معروف، تم تصوير مسلسل شهير به هو «ميت وش»، هذا الميدان بجهود ذاتية من سكان البيوت المطلة عليه أجريت له عمليات إعادة تشجير وإضاءة ووضعوا مقاعد لطيفة وعدة كنبات، وتركوه مفتوحاً، رئة تنفس لمن يشاء. هذا الميدان صار يشهد عدة أنشطة على مدار اليوم وأيضاً على مدار الأسبوع.. يعنى يتحول نهاراً قبلة للزوار يحملون الأكل والشرب ويتصايحون وربما يتعاركون.. فى وقت متأخر يمكنك أن ترى وتسمع التقاذف بفوارغ المشروبات الروحية، وترى بأم عينيك فى جوف الليل عربيّات راكنة، فى الشوارع المتفرعة منه، وإن تفحصت فى الصباح «البقايا»، فلا مانع من سرنجات وحقن والذى منه. نزل سقف طموحات سكان المعادى القديمة، النظافة صارت رفاهية، الهدوء، النظام، كل ده بره أحلامهم، ما يشغلهم الآن هو قمامة الشوارع التى تفيض بالحقن والسرنجات، ولا يعرفون ما العمل!! منذ عدة أسابيع تنتظم صفحة الفيس بوك فى نشر عشرات الصور لتريلات ولوادر ترفع القمامة.. (و لا تنسَ مع كل صورة أن تشير إلى أن رفع المخالفات والقمامة يتم تحت إشراف السيد رئيس الحى).. أطنان القمامة، وأقول أطنان القمامة التى ينشرون صورها وحدها دليل إدانة لكل من تولى هذا المنصب منذ عشر سنوات على الأقل! لأنها «أطنان» بلا مبالغة! لن أخوض فى «سويقة» شارع «٩»، الذى شهد فاجعة مريم.. الفيلات التى تحولت لمقاهٍ والأرصفة التى اختفت وسوق الخضار والسمك المنصوب أمام محطة المترو.. الفاجعة ربما تشد الغربال لفترة، لكن الوضع أخطر من أن يعالج بأسلوب «الفوارات».. وأختم بأن سكان المعادى القديمة، يتكلمون عن القادم، فى حال انتقال السفارات، وخروجها من المعادى إلى العاصمة الإدارية.. هذه السفارات تضمن على الأقل فى محيطها اللاصق قدراً ولو محدوداً من الأمان والنظافة، فماذا بعد رحيلها.. ولهم فيما جرى للزمالك دليل! هيبقى عادى.. فى المعادى!