فى كل عدوان وحرب وموت يقع على غزة ومن قبلها فلسطين، من قبل حماس بسنين، يلح السؤال: ينتحرون؟!
لا يبدو العقل وحده كافياً لإجابة كيف صار الموت هناك أليفاً كالقطط ومُنتظراً كالضوء والظلام. من أين تأتى كل هذه الثقة واليقين والأمل بل وتزيد مع كل موت وبه؟ صار قدراً واختياراً ووصية، يقول محمود درويش:
إذا مت قبلك أوصيك بالمستحيل..
لا تنس إن مت قبلك أوصيك بالمستحيل!
الموت أصبح فى فلسطين كالكلمات.. يقول:
منكم السيف ومنا دمنا
منكم الفولاذ والنار ومنا لحمنا
منكم دبابة أخرى ومنا حجر
منكم قنبلة الغاز ومنا المطر
وعلينا ما عليكم من سماء وهواء
فخذوا حصتكم من دمنا وانصرفوا
وادخلوا حفل عشاء راقص وانصرفوا
وعلينا نحن أن نحرس ورد الشهداء.
الحلم لا يغيب والأمل لا يكل والحنين لا ينقطع رغم الدم والقنص والهلاك والفراق وتفتيت الجسد:
حرس الحدود مرابط.. يحمى الحدود من الحنين
إن الطريق إلى الطريق دمٌ ومصيدةٌ وبيدُ
كل القوافل قبلهم غاصت
وكان النهر يبصق ضفتيه قطعاً من اللحم المفتت فى وجوه العائدين.
ويستصغر الأرض مقارنة بالدم المسال:
هذه الأرض أصغر من دم أبنائها الواقفين على عتبات القيامة مثل القرابين
هل هذه الأرض حقاً مباركة أم معمدة بدم ودم ودم
لا تجففه الصلوات ولا الرمل.
ويستخف بوجود الموت أصلاً:
واقتبسوا كلام الفيلسوف
الموت لا يعنى لنا شيئاً
نكون فلا يكون
الموت لا يعنى لنا شيئاً
يكون فلا نكون
ورتبوا أحلامهم بطريقة أخرى
وماتوا واقفين.
ولا يثير الموت أى أسئلة، فقد بات من طبائع الحياة ومفرداتها ولوازمها، هذه الحياة التى هى لا حياة:
لم يسألوا ماذا وراء الموت؟
لم يسألوا ماذا وراء الموت؟
كانوا يحفظون خريطة الفردوس أكثر من كتاب الأرض
يشغلهم سؤال آخر: ماذا سنفعل قبل هذا الموت؟
قرب حياتنا نحيا ولا نحيا.
ثم إنهم يدركون بقضيتهم التى لا تنقضى وبموتهم الذى لا يكف وبصمودهم الذى لا يناسب عزلتهم الخاوية قد صاروا عبئاً على غيرهم فهم تاريخ لا يندثر وأشباح لا تختفى وأرق مستمر وسؤال ملح لا حل له وسبب لضغط وإحساس عصبى:
كأن حياتنا جزء من الصحراء مختلف عليها بين آلهة العقار
ونحن جيران الغبار الغابرون
حياتنا عبء على المؤرخ «كلما أخفيتهم فى كتاب طلعوا على من الغياب»
حياتنا عبء على الرسام «أرسمهم فأصبح واحداً منهم ويحجبنى الضباب»
حياتنا عبء على الجنرال «كيف يسيل من شبح دمُ»
وحياتنا هى أن نكون كما نريد
نريد أن نحيا قليلاً.
ولكن قلة الحياة هذه وقليلها مفعمة بالإرادة والإصرار والعزم الذى لا يخضع والاستخفاف بالعدو:
هل أطلب الإذن من غرباء
ينامون فوق سريرى أنا
بزيارة نفسى!
ولا يخبو الأمل أبداً:
يا دامى العينين والكفين
إن الليل زائل
لا غرفة التوقيف باقية
ولا زرد السلاسل
نيرون مات
ولم تمت روما
بعينيها تقاتل
وحبوب سنبلة تموت ستملأ الوادى سنابل.
ثم فى إيمان مطلق بحقه وأرضه وانتصاره:
آن أن تنصرفوا ولتموتوا أينما شئتم
ولكن لا تموتوا بيننا
لنا الماضى هنا
ولنا صوت الحياة الأول
ولنا الحاضر الحاضر والمستقبل
ولنا الدنيا هنا والآخرة
فاخرجوا من أرضنا
من برنا من بحرنا
من قمحنا من ملحنا من جرحنا
من كل شىء
واخرجوا من ذكريات الذاكرة.