«تم تأسيس الخلافة»! هكذا تقول البشرى، وهكذا تبدأ الورقة. لم تُبث البشرى من قلب «الأمة» الإسلامية، أو تذاع من مقر الباب العالى، أو تتفجر من شرايين العراق الحائر، أو تتبدى من خلايا الشام الصابر، أو تنجلى من أولى القبلتين وثالث الحرمين. لقد ظهرت فى قلب شارع أكسفورد التجارى فى لندن. الجحافل المتسوقة، والجموع الحاشدة تعرف أن أوراقاً لا أول لها أو آخر يجرى توزيعها فى الشارع الأكثر حيوية فى مدينة الحرية والليبرالية، معقل الديمقراطية والحقوقية، حيث أديان العالم السماوى منها والوضعى، ومناهج الحياة المتراوحة ما انتهج نهجاً يؤمن بالروحانيات ويسلم بوجود الله، وما اختار أن يعتنق منهجاً علمياً بحتاً لا يتحمل إلا المنطق ولا يعترف إلا بما يعترف به العلم والمنطق والعقل. بدت الوريقات المتداولة بين أيادى السياح الصاخبين، والمارة المسرعين، والمتسوقين المتعجلين، وأهل البلد المتراوحين فى أصولهم العرقية وانتماءاتهم الدينية وتوجهاتهم الفكرية بالغة الغرابة. فهى لا تعلم عن مركز لتعليم اللغة الإنجليزية، أو أوكازيون لتصفية الأزياء الصيفية، بل دعوة للانضمام إلى الدولة الداعشية، وبشرى ببزوغ فجر الخلافة الإسلامية وترويج لمبادئ «دولة الإسلام فى العراق والشام» التى تم تأسيسها وذلك بعد إضافة حرفى «Re» أى إعادة تأسيسها. الخلافة الإسلامية المشهر إعادة تأسيسها من قلب شارع أكسفورد أسالت لعاب الإعلام البريطانى، ودهشة المواطن العادى، وإعجاب أصحاب النزعات المتطرفة وضحايا الاضطهاد العنصرى أو الدينى، وأججت الحماسة الفكرية والروح الجدلية لدى أنصار الحريات المطلقة والحقوق التى لا تحدها سوى السماء. مشهد الشباب البريطانيين المسلمين (من أصول غير بريطانية) الواقفين فى الشارع التجارى المزدحم متعدد الجنسيات متراوح الأهواء بجلابيبهم البيضاء الناصعة، ولحاهم السوداء البارزة، ووجوههم السمراء المقطبة جذبت البعض من المارة (ونسبة منهم من العرب). حب استطلاع، ورفض بيّن، وتعاطف كامن، واستفسار واضح عن حكاية تأسيس الخلافة الإسلامية ودعوة الهجرة إليها، وغيرها من الأسئلة الموجهة إلى مندوبى الخلافة فى القلب البريطانى. ورغم أن اسم «داعش» لم يذكر أو يكتب أو يتداول فى عملية توزيع المنشورات، فإنه تم التعامل مع الحدث باعتباره ظهوراً لـ«داعش» فى لندن. مسلمو لندن البالغ عددهم نحو ثلاثة ملايين نسمة، أى نحو أربعة ونصف مليون مسلم من مجموع السكان تتراوح مواقفهم وتتعدد آراؤهم تجاه فكرة الخلافة، وذلك بين قابل ومشجع، ورافض لكن غير كاره، وكاره ومتخوف. لكن المثير أن فكرة واحدة تتكرر وتتردد فى أذهان الجميع، ألا وهى أن شعور البريطانيين المسلمين بكبت أو قهر أو اضطهاد أو رفض أو عنصرية لا يولد إلا ميلاً للتطرف. حتى من يرفضون فكرة الخلافة لا يطلقون عليها صفة الإرهاب ولا يوصمونها بنعوت العنف والقتل والخراب، هى جماعة «متطرفة». لكن السؤال الذى يطرحه بريطانيون غير مسلمين. «لماذا لا يشجب أو يندد أو يرفض مسلمو بريطانيا «داعش»؟ وتكمن الإجابة أو جزء منها فى ما يقوله البعض من مسلمى بريطانيا. فمنهم من يردد نهاراً جهاراً أن بريطانيا قضت على الخلافة الإسلامية قبل تسعة عقود، لكن ها هى الخلافة مقبلة، أو أن قواعد الديمقراطية وحقوق الإنسان البريطانية تجبر الجميع على السماح للبريطانيين الراغبين فى تحويل بريطانيا إلى جزء من دولة الخلافة بالمشاركة فى تحقيق الهدف. آخرون يعبرون عن أحلام وآمال بالعيش فى كنف دولة الشريعة. الأهم من موقف بريطانيا من المشهد السريالى الدائرة رحاه فى دول الهبوب الربيعى العربى، ورؤيتها للشرق الأوسط الجديد الحالى تشكيله، ومصالحها المهددة هنا أو المرجحة هناك، هو كيف ستتعامل مع دواعشها المحليين فى ظل احترام حقوق الإنسان، وتقديس حرية المعتقد، والدفاع عن الشرعية والشريعة عبر البحار؟!