23 سبتمبر..
واحد وتسعون عاماً مرت على ميلاد الكاتب والمفكر محمد حسنين هيكل، خاض خلالها منذ أن بدأ العمل فى الصحافة فى أوائل الأربعينات معارك صحفية ووطنية عديدة.
إننى لا أريد أن أعدّد محطات المعارك، أو أسبابها، فهى معارك عديدة ومتعددة، كان الأستاذ ملتزماً فيها بثوابت الوطنية المصرية ومعايير الأخلاق المهنية طيلة هذه الفترة.
وربما كانت معركة الأستاذ هيكل مع الرئيس الأسبق أنور السادات هى واحدة من أهم تلك المعارك، خاصة عندما واجه الأستاذ محاولات إجهاض انتصار أكتوبر، وفتح الطريق أمام التسوية السلمية مع العدو الصهيونى. لم يكن أمام «السادات» يومها إلا أن أصدر قراراً فى الثانى من فبراير 1974، يقضى بإبعاد الأستاذ هيكل من رئاسة تحرير صحيفة «الأهرام» إلى منصب مستشار رئيس الجمهورية، يومها رفض «هيكل» القرار، لملم أوراقه من هذا المكان الذى عاش فيه أحلى أيامه، وخرج ليقول «إن الرئيس يملك أن يقرر إخراجى من (الأهرام)، وأما أين أذهب بعد ذلك فهذا قرارى وحدى، وقرارى هو أن أتفرغ لكتابة كتبى وفقط»..
منذ هذا الوقت، كان «هيكل» يرفض دوماً أن يمتثل لمطالب أهل الحكم، ليشاركهم المسئولية، حدث ذلك أيضاً أثناء تشكيل حكومة ممدوح سالم فى السبعينات، عندما اعتذر عن منصب نائب رئيس الوزراء لشئون العالم، وقس على ذلك!!
كان «هيكل» يصر على أن يبقى «جورنالجياً» حتى آخر يوم فى حياته، متعه الله بالصحة والعافية. لم يبخل بخبرته على الأجيال المتعددة من الصحفيين، أنشأ جائزة للمبدعين منهم، وكان يتابع من يتم إلحاقهم بدورات تدريبية فى بريطانيا وخارج البلاد، وكان يتواصل مع شباب الصحفيين، ويسعد دائماً مع كل انطلاقة جديدة.
ومع اشتداد الحملات الإعلامية التى استهدفته فى فترات تاريخية متعددة، كان يرفض الرد، ويلتزم الصمت، حتى عندما هاجمته إحدى الصحف المصرية فى أعقاب إبعاده من «الأهرام»، واستشهدت بفقرات مبتسرة من حديث أدلى به لصحيفة «الإكسبريس» الفرنسية، وضعته فى صفحتها الأولى تحت عنوان «واحد ضد مصر»، قال «هيكل» لم أغضب لما فعلته هذه الصحيفة المصرية، لأننى فى كل ما قلت لم أكن أشعر بأننى واحد ضد مصر وإنما كنت طوال الوقت أشعر أننى «واحد من مصر».
هكذا كان الأستاذ يسمو ويرفض الانجرار إلى المعارك التى أرادوا من خلفها تصويره أنه يعادى الوطن، وتناسوا أن الأستاذ كان يفرّق دوماً بين موقفه من أنظمة الحكم التى يرى فيها خروجاً على الثوابت الوطنية، وموقفه الثابت والمبدئى من الوطن وثوابته.
ظل الأستاذ واضحاً فى موقفه من هذه الأنظمة جميعاً، كان مؤيداً للنظام الوطنى الناصرى، لكنه فى الوقت نفسه كان ناصحاً أميناً، يعبر عن رأيه بكل وضوح وجرأة، وكان موقفه من نظام «مبارك» لا يقبل التأويل منذ أن التقاه ضمن واحد وثلاثين معارضاً أفرج عنهم فى 27 نوفمبر 1981، وكان الأستاذ واحداً من هؤلاء المعتقلين.
إنه تاريخ طويل، ربما عبّر الأستاذ عن بعض وقائعه فى الكتب التى أصدرها، وتحديداً منذ كتابه الأهم «بين الصحافة والسياسة»، و«خريف الغضب»، و«وقائع تحقيق سياسى أمام المدعى الاشتراكى» وهلم جرا.
واحد وتسعون عاماً مرت، ولا يزال الأستاذ يحتفظ بذاكرة تاريخية وقدرة تحليلية هائلة، تقدم الجديد، وتحلل المشهد بطريقة عبقرية لا تزال موضع إبهار للكثيرين.
منذ أيام قليلة كنت أزور الأستاذ فى مكتبه، وقد رأيته متفائلاً، كما لم أره من قبل، ربما لأن ذلك جاء فى أعقاب لقاء الثلاث ساعات الذى جرى بينه وبين الرئيس عبدالفتاح السيسى، وربما أيضاً لأن الأستاذ أدرك أن حقائق الواقع على الأرض المصرية أكدت أن البلاد تتجاوز المؤامرة التى حيكت للمنطقة العربية بأسرها.
فى العام الواحد والتسعين يبقى الأستاذ قادراً على العطاء بطريقة تذهل الكثيرين، ولكن من يقرأ حياة ومواقف ومعارك محمد حسنين هيكل يدرك أيضاً أنه شخصية استثنائية.
كل عام وأنت بخير يا أستاذ هيكل، وكل عام وأنت شامخ لا تنحنى!