الساعة 11 ظهر السبت 6 أكتوبر، اجتمع بنا رئيس الكتيبة 35 فهد/ موليتيكا، صواريخ مضادة للدبابات، وطلب منا تبليغ جنودنا، الساعة الواحدة، بأن طلعة الطيران ضد خط بارليف ستبدأ الساعة الثانية، وبعدها بعشر دقائق، تقوم المدفعية بضرب مكثف لاستكمال هدمه، ثم يأتى دورنا فى عبور قناة السويس لتحرير سيناء من الاحتلال الإسرائيلى، كدنا أن نطير من الفرحة، أخيراً، وبعد ست سنوات من النكسة، وثلاث سنوات من الخدمة العسكرية الوطنية، سنحارب إسرائيل، لم يدُر بخلد أى منا سلسلة المقالات والمعلومات التى نشرت حول ضحايا الموجة الأولى للعبور، التى قدرت بحوالى 70%؛ حيث سيتعرضون لنيران كثيفة زرعتها إسرائيل على سطح القناة، لقد عبرنا دون أى خسائر، وقاتلنا قتال الشرفاء، وعاصرت مع «طلعت برغوث ومحمد عبدالعاطى ومغاورى وجورج» ملحمة تحرير سيناء، لن أنسى أن «مسعد» أصيب فى عينيه وأصر على قيادة السيارة اليونيماج تحت القصف، وأن ربع رأس مغاورى كان قد طار نتيجة شظية، ومع ذلك، أصر على استمرار حمل الصواريخ المضادة للدبابات فى أكبر معركة دبابات بعد الحرب العالمية الثانية بالمنطقة الوسطى.
إن انتصار مصر فى 1973 يعود إلى روح أكتوبر، التى يمكن شرحها فى قضايا كبرى يقع على رأسها التدريب الجاد للقوات المسلحة المصرية التى جمعت بين أبنائها المقاتلين المحترفين من ناحية وضباط وجنود الاحتياط من ناحية أخرى، دون تمييز، لقد كان التدريب القاسى والجاد يطول عدة أيام بلا نوم، وكان يقوم على التنسيق والتكامل بين مختلف الأسلحة، وسيطرت عليه قيمة الالتزام والنظام DISCIPLINE، حتى فيما كنا نعتقد آنذاك أنه تفاصيل طويلة، وكان التدريب المكثف فى كتيبتنا يتم بطريق المحاكاة SIMULATOR قام به المهندس محمود، ساعات طويلة تختبر فيها ليس فقط دقة التصويب ودقة فهم المسافات وتقديرها بالعين المجردة، وإنما أيضاً القدرة على الحرب وسط أصعب الظروف، كنا نتدرب بكثافة وجدية على مستوى الفرقة الثانية عدة مرات فى العام، ولقد أثمر ذلك، منذ لحظة العبور؛ فها هو قائد اللواء 16 مشاة ميكانيكى يستدعينى ليلة 8 أكتوبر للسير ليلاً لمدة ساعتين ثم التمركز على حافة أحد التلال لمواجهة هجوم دبابات إسرائيلية متوقع صباح يوم 9 أكتوبر. إن بسالة المصريين فى الحرب وفهمهم لأبعادها الاستراتيجية ونتائجها السياسية وتفانيهم فى الدفاع عن سيناء قادت إلى الانتصار.
ومن جانب آخر؛ فإن من لم يسعدهم الحظ بالمشاركة فى الحرب، سواء من الذكور أو الإناث، دخلوا فى ملحمة وطنية فريدة قوامها الوحدة الوطنية المطلقة وراء القوات المسلحة ومشروع تحرير سيناء، ولم يكتفوا بزيارة الجرحى والمصابين فى المستشفيات لدعمهم نفسياً واجتماعياً أو التبرع بما لديهم للمجهود الحربى وإعادة بناء القوات المسلحة، وإنما تحملوا، بلا كلل، قصور المواد الاقتصادية لتلبية احتياجاتهم الأساسية، وكانوا يؤثرون الوطن على أنفسهم، وتم تسخير كل مؤسسات الدولة ومساجدها وكنائسها لإشاعة ثقافة الولاء والانتماء والتضحية فى سبيل مصر، ونظم شبابها حملات الدفاع المدنى لحماية المؤسسات والمصالح الحيوية.. وهكذا، اكتملت بيئة الحرب ضد الاحتلال الإسرائيلى لسيناء؛ جيش محترف مهنى، وجبهة داخلية متماسكة متأهبة معبأة طوعاً لصالح الوطن.
وتمثلت روح أكتوبر أيضاً فى تنسيق استراتيجى عربى لم يحدث مثله فى التاريخ، وإن كنا نتوقعه الآن بسبب التهديدات الكبرى للأمن القومى العربى؛ فقد اتفق الرئيسان السابقان -أنور السادات وحافظ الأسد- بشرف على ساعة الصفر دون أن يسربها أحدهما أو أى مسئول إلى الإعلام، وكانت الحرب أكبر مفاجأة فى تاريخ إسرائيل؛ حيث اختير يوم كيبور EXODUS/ 6 أكتوبر لأنه اليوم الذى تشهد فيه مياه قناة السويس استواءً كاملاً دون أى موجات قد تهدد العبور، اتفق الطرفان على تحرير سيناء والجولان، تم التنسيق بين الدولتين، وأنا أكاد أجزم أن هذا التوافق الاستراتيجى كان يمكن أن يقود إلى تحرير الجولان مثل تحرير سيناء لولا قيام الولايات المتحدة بفتح جسر جوى مباشر يمد إسرائيل بأسلحة أمريكية حديثة وجديدة، ومن ثم لم تكن مصر وسوريا تحاربان إسرائيل وحدها بعد عدة أيام من الحرب، وإنما كذلك القدرة العسكرية الأمريكية.
وقد أصدر الملك فيصل -فى ذات الوقت- قراراً بقطع البترول عن الدول المساندة لإسرائيل، وهكذا، تكامل العمل العسكرى على جبهة القتال مع القرار الاقتصادى العربى لتعظيم القدرات العربية فى مواجهة إسرائيل.
إن روح أكتوبر، التى تمثلت فى القوة البشرية المدربة على أحدث الأسلحة، وتمثلت فى قيم الإيثار والوطنية ووحدة الجبهة الداخلية، وتم دعمها بتنسيق عربى ثنائى ثم مساندة عربية بلا حدود، تمثل جوهر المشروع المصرى اليوم لبناء مصر المعاصرة، إن المشروعات الكبرى كقناة السويس الجديدة، أو السكك الحديدية السريعة والحديثة، أو تنمية الساحل الشمالى، أو مثلث التنمية، أو تنمية سيناء، أو التحول إلى الطاقة الشمسية، لا يمكن أن تنجح إلا باستدعاء روح أكتوبر، روح الوطنية المصرية، روح الإيثاروإنكار الذات، روح التضامن العربى.
إن التهديدات التى تواجه الأمن القومى العربى اليوم لا تقل عن التهديدات والتحديات التى واجهت المصريين إبان حرب أكتوبر؛ حيث تتعرض سوريا واليمن وليبيا إلى التجزئة والتشرذم والانقسام، كما تتكالب علينا استراتيجيات الاختراق الغربية، ومع ذلك؛ فإن عدم القدرة على استدعاء روح أكتوبر تكرس من تلك التهديدات والتحديات بصورة تضر ليس فقط بالدولة القومية، وإنما بمستقبل الأمة العربية ذاتها، وهكذا فإن الأمر معروض على القيادة السياسية المصرية للدعوة إلى مؤتمر قمة عربى طارئ تَحُفّه روح أكتوبر وتسوده الرغبة الأكيدة فى الحفاظ على النظام العربى والارتقاء به.