بدأنا المقال السابق بالحديث عن كيفية خفض عجز الموازنة دون طحن المستضعفين.. وهنا نكمل البدائل المطروحة لوجود حلول بعيدة عن الضغط عليهم.
7- إعمال مبادئ الرقابة والمساءلة، ضماناً للنزاهة، على جميع الموارد العامة وعلى الإنفاق منها.
8- إلغاء أى أثر باق لبدلات ومكافآت «الولاء» سيئة الصيت، التى يقدر البعض أنها كانت ترفع تكلفة موكب واحد لرأس الحكم المخلوع داخل القاهرة الكبرى إلى خمسة عشر مليون جنيه، تزيد إلى أكثر من الضعف لو انتقل جنابه إلى خارج القاهرة داخل الجمهورية، وتظهر أهمية هذا البند فى عودة مواكب وإجراءات تأمين الرئيس الحالى إلى سابق عهدها أيام الطاغية المخلوع بل زاد عليها أمور مستجدة بسبب الاستقطاب الحاد فى صفوف الشعب.
9- إصلاح الهيكل الضريبى بإعطاء الأولوية للضرائب المباشرة على الدخل والإثراء (أى الأرباح الرأسمالية أساساً) والعودة إلى نظام معدلات الضرائب التصاعدية، حسب شرائح الدخل والثروة بشكل يحقق العدالة، وتكثيف الجهد لتحقيق الانضباط الضريبى خاصة بين كبار الممولين.
10- وقف وهب الغاز والبترول المصريين للعدو الإسرائيلى ولغيره (مثل قبرص) أو بيعهما بأسعار متدنية.
11- استعادة مشروعات القطاع العام التى بيعت بخساً وإفساداً، للملكية العامة، مع تعويض أصحابها الحاليين عما دفعوا فى شرائها فقط، وليس قيمتها السوقية الحالية، وتبنى سبل توسيع قاعدة ملكية الشعب لهذه المشروعات، وتخصيص قسم من أرباحها لصندوق لتنشيط الاقتصاد وإقامة العدل.
12- مصادرة الثروات التى استلبها أصحابها، بطرق غير مشروعة أو غير أخلاقية، مثل عمولات توريد السلاح وإرساء المناقصات العامة والمضاربة فى الأراضى والبورصة وأرباح الاتجار فى المخدرات والتهرب الضريبى، خاصة بإساءة استغلال النفوذ والحظوة من السلطة والثروة، وتخصيصها لصندوق تنشيط الاقتصاد وإقامة العدل. والمؤسف مرة أخرى، أن السلطة الحالية، تتسامح وتتصالح مع من نهبوا البلاد والشعب، لا تبدى علامات جادة على السعى لاستعادة أموال الوطن والشعب المنهوبة والمهربة إلى الخارج.
ثانياً: خفض دعم الأغنياء ومحاربة الفساد
1- إلغاء دعم الطاقة للصناعات كثيفة استخدام الطاقة الذى يمثل 80% من مجمل دعم الطاقة فى الموازنة، ومن ثم كان إلغاء هذا الدعم أو خفضه سيتيح خفضاً أكثر لعجز الموازنة من رفع أسعار الوقود الذى يعتمد عليه معظم الشعب وغالبية النشاط الاقتصادى بما يؤجج تصاعداً تضخمياً جامحاً يطحن المستضعفين من أهل مصر.
فالمعروف أن شركات الأسمنت تحصل على 1400 جنيه دعماً فى طن المازوت، وشركات الأسمنت والسيراميك والحديد وخط سوميد للبترول، تحصل على الكهرباء بسعر 33 قرشاً دون شرائح تصاعدية، وشركة كيما للأسمدة تحصل على الكهرباء بسعر خمسة قروش لكل (ك و ر س)، وتصدّر 75% من إنتاجها للخارج بالأسعار العالمية. أى أن كل هؤلاء المستهلكين للطاقة بكثافة ضخمة يدفعون أسعاراً أقل من المستهلك فى القطاع الأسرى. فلماذا لا يعاملون، على الأقل معاملة المستهلك الأسرى؟ وإن كان العدل يقضى بأن يدفعوا تكلفة أعلى كثيراً للوقود.
2- إلغاء الإعفاءات الضريبية المقررة للأغنياء وزيادة سعر الضريبة على الشرائح الأعلى من الدخل وزيادة الثروة
ثالثاً: وقف تدليل الأغنياء وتبذيرهم
1- قصر الحج على مرة واحدة فى العمر وقصر العُمرة على مرة واحدة كل عشر سنوات.
2- تطبيق حدود عليا صارمة على الإنفاق على الحملات الانتخابية.
3- وضع حد أعلى للدخل والثروة، خاصة فى الأرض الزراعية، يطبق على جميع فئات الشعب بلا استثناء. مثلاً، القانون الحالى للحد الأعلى للدخل يستثنى القطاع الخاص وفئات لاعبى الكرة ومن يسمون بالفنانين من أهل المغنى والتمثيل.
ويتعين أن يكون واضحاً أن السيد الرئيس ووزارته كان يمكنهم، فى غياب مجلس نيابى، اتخاذ القرارات الكفيلة ببعض هذه المقترحات فوراً.
فلماذا اختاروا طحن الغالبية المستضعفة؟
الإجابة ببساطة هى لأن هذه الجموع الشعبية لا قيمة لها فى موازين الحكم التسلطى إلا إذا ثارت على القهر والظلم. وقد استدعيت للثورة. فالحكومة أطلقت موجة عاتية من الغلاء الجامح ستسحق المستضعفين الكادحين من أهل مصر، بدعوى تخفيض 50 مليار جنيه من عجز الموازنة العامة حفاظاً على صحة المالية العامة، إلا أنه بعد أيام قليلة أعلنت الحكومة ذاتها أنها ستنشئ قصراً رئاسياً جديداً ومقرات حكومية على بعد 20 كيلومتراً من القاهرة فى اتجاه السويس بتكلفة 50 مليار جنيه بالضبط. أظن أن الدافع الرئيسى لهذه النقلة هو ضمان أمن الرئيس وكبار المسئولين، تماماً كما كان محمد حسنى مبارك «يعتكف» فى شرم الشيخ. لكن، اقتصادياً، تبين أن علة خفض عجز الموازنة لم تكن إلا خديعة إعلامية للتعمية على سحق الكادحين المطحونين أصلا، لإثراء كبار المقاولين المحليين، القوات المسلحة وأصحاب الأعمال، وأقرانهم من الأجانب. هى ليست إلا إعادة توزيع للدخل القومى، المتدنى بداية، لصالح التحالف المؤسس لسلطة الحكم الراهنة. وربما كانت بادرة غزل غير عفيف من الحكومة لكل من البنك الدولى وصندوق النقد الدولى تمهيداً للاقتراض منهما مستقبلاً.
إن مأساة قوى الحكم التسلطى، وسوء حظ الشعب الذى تحكمه، أن قصر النظر التاريخى يزين لها أن المزيج السام من الإفقار والقهر والبطش الذى تسلطّه على الناس سيفرغ قوى الثورة الشعبية من الإمكان الثورى. ولكن يغيب عنهم أن تراكم هذا المزيج السام هو بالضبط وقود حركات الاحتجاج الشعبى التى تتراكم وصولاً إلى الخروج الثورى على الحكم التسلطى. هذا هو درس التاريخ، خصوصاً التاريخ الحديث فى مصر.
يذكرنا الكاتب «برتولت بريخت» بأن التغير من السنن الأزلية للكون بمقولة «ما بقيت الأوضاع على ما هى عليه، فلا يمكن أن تبقى على حالها». وفى الأثر العربى «لو دامت لغيرك، ما وصلت إليك».
وفى النهاية، نتمنى مخلصين أن تكون السلطة الراهنة معنا، على اقتناع أكيد بأن قيم العدل والمساواة هى من أسمى ما تنزع إليه المجتمعات البشرية المتحضرة، حتى فى ظل التنظيم الرأسمالى السليم، ومن يصر على طحن المستضعفين أو الاقتراض والاستجداء مهملاً البدائل الخيرة المشار إليها أعلاه، فليس إلا كارهاً للعدالة الاجتماعية أو عاملاً على تكريس تبعية مصر لمقرضيها والمحسنين لها، أو لكليهما.