منذ لحظة أن أصدر القاضى حكمه ببراءة مبارك سادت حالة من الفتنة والشقاق المجتمعى لم يعرفها المصريون قبلها بساعات قليلة وهم مصطفون يداً واحدة مع الجيش والشرطة لمواجهة الإرهاب ضد التظاهرات التى دعا لها المتأسلمون فى 28 نوفمبر ولم يحضرها أحد، فقد انقسم الناس فى ردة فعلتهم على الحكم، فهناك من يرى أن مبارك ماضٍ يجب أن ينقشع لنمضى فى طريق المستقبل، وهناك من أصيب بصدمة أن الحكم ما هو إلا إعلان عن المسمار الأخير فى نعش ثورة 25 يناير، وما بين هذا وذاك يبقى أننا جميعاً يجب أن ندرك أن مبارك ونجليه والعادلى ومساعديه قد حصلوا على براءة إجرائية وليست جنائية فى قضية قتل المتظاهرين، ففى فحوى منطوق الحكم قُضى بعدم جواز نظر الدعوى لسبق صدور أمر ضمنى من النيابة العامة بذلك، إذن فمرد هذا الحكم هو خطأ إجرائى من النيابة العامة فى الإحالة.
فقبل أن نخوض فى سبل المحاكمة العادلة يجب أن نتحدث عن المغزى من وراء محاكمة مبارك، فليس الغرض هو الانتقام من شخصه أو حتى إذلاله للرد على من يتبنى مقولة «ارحموا عزيز قوم ذل»، وإنما فلسفة محاكمته تكمن فى إرساء مبادئ العدالة المجتمعية والقصاص العادل للشهداء، فحتى يوم 31 يناير 2011م كان قد سقط المئات من الشهداء والمصابين، بجانب ما سبق ذلك من جرائم فساد سياسى ومالى شاب لها رأس الولدان، فقد فتح مبارك الطريق لهيمنة أمريكية شبه كاملة على الوطن العزيز مصر، ووافق على طلب الخارجية الأمريكية بتمويل عدد من المنظمات السياسية والحقوقية داخل مصر ليفتح الطريق ويمهده لأجهزة المخابرات المعادية للعبث داخل الدولة، كما أنه ترك ولديه يعيثان فى الوطن فساداً فيتحكم أحدهما فى رجال الأعمال ورؤوس الأموال، أما الآخر ففى رسم سياسات الدولة ليتزاوج فى النهاية المال بالسياسة لينجبا سفاحاً فساداً استشرى فى كل جنبات الدولة ليباع القطاع العام بأبخس الأثمان وتنهب أراضى الدولة ومقدراتها، ليترك الوطن جائعاً ويهان أبناؤه فى كل مناحى الحياة.
لتتحول مصر إلى دولة عجوز من عمر حاكمها، فقد كانت المطالب الشعبية للخامس والعشرين من يناير واضحة: العيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية، فدفع ثمن رفع لوائها مناضلون فقراء من أبناء جيل السبعينات وشباب خرجوا كالسيل فى ظهيرة الخامس والعشرين من يناير ليموتوا فداء لحرية الوطن فلم يكونوا إخواناً ولا ممولين ولا متآمرين، وإنما شباب متعلمون أبناء الأحياء الشعبية والطبقات المتوسطة التى كانت فى طريقها للتهميش والانزلاق للفقر المدقع، لم يدفع لهم أحد حفنة من الدولارات ليموتوا أو يصابوا، ولم يكن لهم ذنب أن ما قاموا به من ثورة عظيمة قد التف حولها اللمم من الإخوان والممولين ليحاولوا سرقة الثورة والقفز عليها ليأخذوها فى طريق يحقق مصالحهم البغيضة سياسية كانت أو مالية.
فمن يرى براءة مبارك هى تدعيم لموقفهم فى أن 25 يناير كانت مؤامرة، ولم تكن ثورة، يجب أن يرد على تساؤلات بديهية ومنطقية: فهل يمكن أن ينحاز الجيش لـ25 يناير وهى مؤامرة على الوطن؟ هل يمكن أن تؤدى التحية العسكرية من اللواء محسن الفنجرى، عضو المجلس الأعلى للقوات المسلحة، لمتآمرين؟ لماذا استنكر اللواء إسماعيل عتمان، عضو المجلس الأعلى للقوات المسلحة وصف 25 يناير بالمؤامرة؟ هل يمكن أن يصف الرئيس السيسى فى خطابه أمام الأمم المتحدة 25 يناير بالثورة على حكم الفرد وهى مؤامرة؟!
عموماً هذا الحكم ليس نهاية المطاف بعد قرار النائب العام بنقض الحكم الذى شابه عوار قانونى، كما أنه يمكن محاكمة مبارك ورجالات نظامه عن جرائم الفساد المالى والسياسى بقوانين محاكمة رئيس الجمهورية ومحاكمة الوزراء وقانون حماية الثورة، كما أن الدستور ينص فى (المادة 241) منه «يلتزم مجلس النواب فى أول دور انعقاد له بعد نفاذ هذا الدستور بإصدار قانون للعدالة الانتقالية يكفل كشف الحقيقة، والمحاسبة، واقتراح أطر المصالحة الوطنية، وتعويض الضحايا، وذلك وفقاً للمعايير الدولية».