فى أعداد تحصى بالملايين، تتحرك أسراب سمك السردين الصغيرة من شمال المحيط الأطلسى البارد، إلى دفء الجنوب، وهى لا تملك عن نفسها دفاعاً سوى كثرة أعدادها، وفى الطريق إلى الدفء يهاجمها الأعداء الجوعى. وحين يقترب العدو ليست هناك سوى حيلة واحدة لصد الهجوم: تتجمع الأسماك معاً فى شكل يشبه الكرة الضخمة، لكن أسماك الدولفين الزرقاء لا تهتم بذلك الحصن وتخترقه، وعلى صوت المعركة يصل القرش النحاسى الضخم ليشارك فى الوليمة.
وتفر أسماك السردين مذعورة إلى قرب سطح المحيط، وهناك ينتظر الآلاف من طيور البجع رؤية اللمعانات الفضية لبدن السردين، تنقضّ عليها من ارتفاع عال بسرعة تبلغ نحو 120 كيلومتراً فى الساعة، وهكذا يتشتت سرب السردين بين أسنان الدلافين والقروش ومناقير البجعات، وما يتبقى منها حياً فإن شباك الصيد فى انتظاره. وعلى الرغم من أن أسماك السردين طعام موحد للبشر والطيور وكائنات البر والبحر، فإنها لا تنقرض أبداً بفضل كثرتها، وبفضل التوازن الطبيعى الذى يجعل من وجودها ضرورة كونية.
لم تكن هذه مؤامرة على أسماك السردين، بل هى طبيعة مصيرها ومسار حياتها. وهى لا تختلف كثيراً عما يجرى فوق اليابسة، فدورة الحياة تستوجب ذلك النزيف المستمر فى دماء الكائنات الحية، ومن كل دم يسيل تولد حياة جديدة، غير أن البشر أضافوا إلى طبيعة الصراع قدرتهم على التحايل وصناعة المؤامرات. وطوال حياتهم كان المثقفون تحديداً يؤمنون بنظرية المؤامرة باعتبارها المفسر الأساسى لكل ما يجرى حولهم.
وفى السنوات الأخيرة، صار اللعب على المكشوف، وصارت المؤامرة تُحاك علناً، وكانت المفاجأة أن النخبة التى كانت تؤمن بنظرية المؤامرة تراجعت عنها، وانخدعت فى حركة الحشود البشرية الضخمة فى الميادين، معتقدة أن تدفق الناس إلى الميادين كفيل بتغيير مسار المؤامرة أو إفسادها.
نحن أمام رقعة مؤامرة بامتداد خريطة العالم، ولأن اللعب على المكشوف، بدا المشهد وكأنما كل شخص يضع مسدساً فى رأس الشخص الذى يجاوره، واخترق كل متآمر أرض نفوذ عدوه. دعونا نبسط الخريطة: سوريا كانت حديقة خلفية لروسيا فصارت ملعباً للمتقاتلين الأمريكان، ودول أوروبا الشرقية التى كانت ملعباً لروسيا باعت نفسها لسيد جديد فى واشنطن. ومصر الحليف القديم لأمريكا صارت أقرب إلى موسكو والصين. وجماعات الإسلام الأمريكى تعبث فى العراق وسوريا والأردن واليمن وليبيا وتونس ونيجيريا والصومال. السعودية الثرية حليف أمريكا هى نفسها السعودية عدوة الإخوان الأمريكيين، والسعودية الوهابية السلفية هى نفسها عدوة الإخوان الوهابيين.
والبشر فى هذه الخريطة مجرد أسراب من مليارات أسماك السردين، بعضهم يموت بين أنياب حاكمه وبعضهم يموت بأنياب أمريكا وإيران وسوريا وداعش، وبعضهم ينتظر دوره إلى التعليب فى مصنع السردين العالمى، فلا الحشود فى الميادين تغير مسار المؤامرة ولا الحشود فى الميادين تغير مسار التاريخ.. والكل مفترس والكل فريسة.